ما الجديد

سورة البقرة - حتى الآية 115

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع mahlawy
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
  • الوسوم الوسوم
    قرآن

جزاك الله صحبه النبيين والمرسلين اللهم آمين

مزيد من الموضوعات ل mahlawy

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)


- واذكروا أيضا إذ قلتم : يا موسى لن نصدقك ولن نقرّ بما جئتنا به حتى نرى الله جهرة عيانا، برفع الساتر بيننا وبينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه حتى ننظر إليه بأبصارنا، كما تجهر الركية، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنفى ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا، يقال منه: قد جهرت الركية أجهرها جهرا وجهرة؛
ولذلك قيل: قد جهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا: إذا أظهره لرأي العين وأعلنه.
وفي القائلين لموسى ذلك قولان:
أحدهما: أنهم السبعون المختارون. والثاني: جميع بني إِسرائيل إلا من عصم الله منهم.
"فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ" وماتوا جميعا ، وأصل الصاعقة: كل أمر هائل رآه أو عاينه أو أصابه حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل ، أو فقد بعض آلات الجسم، صوتا كان ذلك، أو نارا، أو زلزلة، أو رجفا،
ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت، قول الله عز وجل: {وخر موسى صعقا} [الأعراف: 143] يعني مغشيا عليه.
وفي قوله : "وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ " قيل: أي ينظر بعضكم إلى بعض كيف يقع ميتاً. وقيل: تنظرون الصاعقة.

- ( قلت )
فرق بين طلب موسى عليه السلام وبين طلب قوم موسى ،
وفرق أيضا بين صعق موسى ، وصعق قومه .
فأمّا طلب موسى الرؤية كان طلبا لنعمة وفضل من الله لذلك قال تعالى له ( فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
أي اشكر يا موسى أني اصطفيتك برسالتي وبكلامي والتوراة ولا تسألني الرؤية في الدنيا
.
أما طلب قوم موسى فكان استكبارا فقالوا لن نؤمن حتى نرى الله ،
لذلك اختلفا في الصعق ،فكان لموسى ما يشبه الاغماء من شدة ما رأى من تصدع الجبل ، ودليله ( فلما أفاق ) ،
لكن الصاعقة كانت عقوبة لبني اسرائيل وموتا فقال تعالى ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) .

قوله: "ثم بعثناكم" أي ثم أحييناكم ،
وأصل البعث: إثارة الشيء من محله، ومنه قولهم: بعث فلان راحلته: إذا أثارها من مبركها للسير.


وقوله: "لعلكم تشكرون" قيل: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم بإحيائي إياكم ولتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم .
وقيل : حين قام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } [الأعراف: 155]
...
 

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)


- قال القرطبي :

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أَيْ جَعَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ كَالظُّلَّةِ.
وَالْغَمَامُ جَمْعُ غَمَامَةٍ كَسَحَابَةٍ وَسَحَابٍ . وَكُلُّ مُغَطًّى فَهُوَ مَغْمُومٌ وَمِنْهُ الْمَغْمُومُ على عقله.
وغم الهلال إِذَا غَطَّاهُ الْغَيْمُ. و تَغُمُّ أَيْ تَسْتُرُ .
وَالْغَيْنُ مِثْلُ الْغَيْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي).

- وَفَعَلَ هَذَا بِهِمْ لِيَقِيَهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ نَهَارًا وَيَنْجَلِي فِي آخِرِهِ لِيَسْتَضِيئُوا بِالْقَمَرِ لَيْلًا.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذَا جَرَى فِي التِّيهِ بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ دُخُولِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ وَقِتَالِهِمْ وَقَالُوا لِمُوسَى" فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا" [المائدة: 42].

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)
اخْتُلِفَ فِي الْمَنِّ والسّلوى مَا هُما ؟
فقِيلَ:" الْمَنُّ" مَصْدَرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا زَرْعٍ ،
وَمِنْهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ (الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الكمأة تنبت في الأرض من غير أن تزرع، وهي من الدرنيات والجذور لا ورق لها، ولا ساق تكون في الأرض مخفية تتولد وتندفع نحو السطح ورائحتها عطرية .
قَالَ العلماء : وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَمْأَةَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي التِّيهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: " إِنَّمَا شَبَّهَهَا بِالْمَنِّ لِأَنَّهُ لَا مَئُونَةَ فِيهَا بِبَذْرٍ وَلَا سَقْيٍ وَلَا عِلَاجٍ فَهِيَ مِنْهُ أَيْ مِنْ جِنْسٍ مَنِّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَنَّهُ كَانَ دُونَ تَكَلُّفٍ "(قلت" لأن المنّ الذي أنزل عليهم كان يسقط على الشجر أما الكمأة فهي كالفطر الذي يخرج من الأرض .حيث قال بني اسرائيل لموسى" لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ ‌طَعَام ‌وَٰاحِد فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌ" .

- وقيل عن السَّلْوَى انه طير يشبه السمان .
 

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)


- يقول تعالى لائمًا لهم على تقاعسهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى، عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة المائدة؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس،
وقد قال الله تعالى: { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }[المائدة: 21-24]
وهذا كان لما خرجوا من
التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون، عليه السلام، وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح .

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هذِهِ الْقَرْيَةَ) أَيْ الْمَدِينَةَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقَرَّتْ أَيْ اجْتَمَعَتْ وَمِنْهُ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ ( قلت. أي ما اجتمع من مساكن وأبنية وضياع ) .
قال جُمْهُورُ المفسرين : هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ .
وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ أَبَاحَ لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.
- قوله تعالى (فَكُلُوا) إباحة.
و (رَغَداً) كَثِيرًا وَاسِعًا أَيْ أكلا رغد .َ وَكَانَتْ أَرْضًا مُبَارَكَةً عَظِيمَةَ الْغَلَّةِ فَلِذَلِكَ قَالَ" رَغَداً" .
- قوله تعالى ( وادخلوا الباب سجدا ) قال ابن عباس وهو أحد أبواب بيت المقدس وهو يدعى باب حطة وقوله سجدا أي ركعا
- قوله تعالى { وقولوا حطة }
معناه استغفروا قاله ابن عباس ، و قال ابن قتيبة وهي كلمة أمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار من حططت أي حط عنا ذنوبنا .
- روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ .)
(( أستاههم ) جمع است وهو مقعدة الإنسان ,
( حبة في شعرة ) ليس لهم غرض من هذا الكلام لأنه لا معنى له وإنما قالوه استهزاء ومخالفة .
قال ابن حجر في الشرح:
والحاصل أنهم خالفوا ما أمروا به من الفعل والقول فإنهم أمروا بالسجود عند انتهائهم شكرا لله تعالى وبقولهم حطة، فبدلوا السجود بالزحف وقالوا حنطة بدل حطة، أو قالوا حطة وزادوا فيها حبة في شعيرة .

- قال القرطبي :اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَقْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهَا أَوْ بِمَعْنَاهَا ،
- فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا لِذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ بَدَّلَ مَا أَمَرَهُ بِقَوْلِهِ.
- وَإِنْ وَقَعَ بِمَعْنَاهَا جَازَ تَبْدِيلُهَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ.

= وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ
أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ بِمَوَاقِعِ الْخِطَابِ الْبَصِيرِ بِآحَادِ كَلِمَاتِهِ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُطَابَقَةِ لِلْمَعْنَى بكمال وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُشَدِّدُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التَّاءِ وَالْيَاءِ وَنَحْوِ هَذَا. وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا يَرَوْنَ إِبْدَالَ اللَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرَهُ حَتَّى إِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَلْحُونًا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ.
وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ مَضْجَعِهِ فِي دُعَاءٍ عَلَّمَهُ (آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ)
فَقَالَ الرَّجُلُ: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ).
- وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الشَّرْعِ لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ وَتَرْجَمَتِهِ لَهُمْ وَذَلِكَ هُوَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى.

- قوله تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا)
أَيْ فَبَدَّلَ الظَّالِمُونَ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قُولُوا حِطَّةٌ فَقَالُوا حِنْطَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَزَادُوا حَرْفًا فِي الْكَلَامِ فَلَقُوا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَقُوا ، تَعْرِيفًا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الشَّرِيعَةِ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ شَدِيدَةُ الضَّرَرِ.

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رِجْزاً) وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ (بالزاي)

و (بالسين): النتن والقذر ومنه قول تعالى" فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، [التوبة: 125] أي نتنا إلى نتنهم .
 

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)


قال القرطبي رحمه الله :
قوله تعالى (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) كُسِرَتِ الذَّالُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَالسِّينُ سِينُ السُّؤَالِ مِثْلُ: اسْتَعْلَمَ وَاسْتَخْبَرَ وَاسْتَنْصَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ،أَيْ طَلَبَ وَسَأَلَ السَّقْيَ لِقَوْمِهِ.
- الِاسْتِسْقَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عُدْمِ الْمَاءِ وَحَبْسِ الْقَطْرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالذِّلَّةِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ. وَقَدِ اسْتَسْقَى نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى مُتَوَاضِعًا مُتَذَلِّلًا مُتَخَشِّعًا مُتَرَسِّلًا مُتَضَرِّعًا وَحَسْبُكَ بِهِ! فَكَيْفَ بِنَا وَلَا تَوْبَةَ مَعَنَا إِلَّا الْعِنَادَ وَمُخَالَفَةَ رَبِّ الْعِبَادِ فَأَنَّى نُسْقَى !.
- سُنَّةُ الِاسْتِسْقَاءِ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى وَالْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ صَلَاةٌ وَلَا خُرُوجٌ وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ لَا غَيْرُ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ دُعَاءٌ عُجِّلَتْ إِجَابَتُهُ فَاكْتُفِيَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ بَيَانَ سُنَّةٍ ،
وَلَمَّا قَصَدَ الْبَيَانَ بَيَّنَ بِفِعْلِهِ حَسَبَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بن زيد الْمَازِنِيُّ قَالَ:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ)
قال تعالى في سورة طه (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى *
- قوله تعالى ( الحجر )
قال ابن كثير : عن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَانْفَجَرَتْ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَقَدْ كَانَ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى تَفْجِيرِ الْمَاءِ وَفَلْقِ الْحَجَرِ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْبِطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً مِنْهُ لِلْعِبَادِ فِي وُصُولِهِمْ إِلَى الْمُرَادِ وَلِيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فِي الْمَعَادِ.
وَالِانْفِجَارُ: الِانْشِقَاقُ وَمِنْهُ انْشَقَّ الْفَجْرُ. وَانْفَجَرَ الْمَاءُ انْفِجَارًا انْفَتَحَ.
وَالِانْبِجَاسِ أَضْيَقُ مِنَ الِانْفِجَارِ لِأَنَّهُ يَكُونُ انْبِجَاسًا ثُمَّ يَصِيرُ انْفِجَارًا.
وَقِيلَ: انْبَجَسَ وَتَبَجَّسَ وَتَفَجَّرَ وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره

قال ابن كثير :
وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية..
وأما في هذه السورة، وهي البقرة فهي مدنية وأخبر هناك بقوله: { فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } [الأعراف: 160]
وهو أول الانفجار، وأخبر هاهنا بما آل إليه الأمر آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار هاهنا، وذاك هناك، والله أعلم.

-قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ)
يَعْنِي أَنَّ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنًا قَدْ عَرَفَهَا لَا يَشْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا. وَالْمَشْرَبُ مَوْضِعُ الشُّرْبِ. وَقِيلَ: الْمَشْرُوبُ.
وَالْأَسْبَاطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي الْعَرَبِ وَهُمْ ذُرِّيَّةُ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ لَا يَتَعَدَّاهَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا)
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْمُتَفَجِّرَ مِنَ الْحَجَرِ الْمُنْفَصِلِ.
(وَلا تَعْثَوْا) أَيْ لَا تُفْسِدُوا. وَالْعَيْثُ: شِدَّةُ الْفَسَادِ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
أي ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلب منكم .
- قال القرطبي :
مَا أُوتِيَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ وَانْفِجَارِهِ مِنْ يَدِهِ وَبَيْنَ أَصَابِعِهِ أَعْظَمُ فِي الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّا نُشَاهِدُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنَ الْأَحْجَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ
وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ لِنَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ لَحْمٍ وَدَمٍ!
( قلت)
- روى البخاري في صحيحه ( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا الحديث قال :
قد رأيتني مع النبي صلى الله عليه و سلم وقد حضرت العصر وليس معنا ماء غير فضلة فجعل في إناء ،
فأتي النبي صلى الله عليه و سلم به فأدخل يده فيه وفرج أصابعه ثم قال ( حي على أهل الوضوء البركة من الله ) ،
فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه فتوضأ الناس وشربوا فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه فعلمت أنه بركة .
قلت لجابر كم كنتم يومئذ ؟
قال ألفا وأربعمائة .( وفي رواية ) خمس عشرة مائة . )
[ الشرح ( حي ) أسرعوا . ( لا آلو ) لا أقصر في الاستكثار من شربه ولا أفتر ]
 

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)



قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ)
كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ فِي التِّيهِ حِينَ مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَتَذَكَّرُوا عَيْشَهُمُ الْأَوَّلَ بِمِصْرَ.
وَكَنَّوْا عَنِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بِطَعَامٍ وَاحِدٍ وَهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَلِذَلِكَ قَالُوا: طَعَامٌ وَاحِدٌ.

وَقِيلَ: لِتَكْرَارِهِمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ غِذَاءً .
- قوله تعالى: ( فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا )
- والبقل ، عنوا به البقول .
- القثاء نبات قريب من الخيار .
- و الفوم ، قيل أنه الحنطة وقيل الثوم وقيل الحبوب .
- قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَالْعَدَسُ وَالزَّيْتُ طَعَامُ الصَّالِحِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ إِلَّا أَنَّهُ ضِيَافَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَدِينَتِهِ لَا تَخْلُو مِنْهُ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ.
مَسْأَلَةٌ - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ سَائِرِ الْبُقُولِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، لِلْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فَرْضًا- إِلَى الْمَنْعِ،
وَقَالُوا: كُلُّ مَا مَنَعَ مِنْ إِتْيَانِ الْفَرْضِ وَالْقِيَامِ بِهِ فَحَرَامٌ عَمَلُهُ وَالتَّشَاغُلُ بِهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا خَبِيثَةً، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَصَفَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ.
وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلْجُمْهُورِ مَا ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِبَدْرٍ (أي بطبق) فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، قَالَ،فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ،

فَقَالَ : (قَرِّبُوهَا )، إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا،
قَالَ: (كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي).

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ.

فَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْخُصُوصِ لَهُ وَالْإِبَاحَةِ لِغَيْرِهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ. فَفَزِعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ .
قَالَ فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ أَوْ مَا كَرِهْتَ،
قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى (يَعْنِي يَأْتِيهِ الْوَحْيُ)
فَهَذَا نَصٌّ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ خَاصٌّ بِالنبي صلى الله عليه وسلم ، إِذْ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِمُنَاجَاةِ الْمَلَكِ.
لَكِنْ قَدْ عَلِمْنَا هَذَا الْحُكْمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ حَيْثُ قَالَ:
(مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ وقال مرة: من أكل البصل والثوم وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ ).

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) الِاسْتِبْدَالُ: وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ الآخر، ومنه البدل
و" أَدْنى " مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّنُوِّ أَيْ الْقُرْبِ فِي الْقِيمَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ مُقَارِبٌ، أَيْ قَلِيلُ الثَّمَنِ .
وقيل مِنَ الدَّنِيءِ ، الْبَيِّنِ الدَّنَاءَةِ بِمَعْنَى الْأَخَسِّ،
وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّونِ أَيْ الْأَحَطِّ .
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الْبَقْلَ وَالْقِثَّاءَ وَالْفُومَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تُوجِبُ فَضْلَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي طَلَبُوهُ وَهِيَ خَمْسَةٌ:
الْأَوَّلُ- أَنَّ الْبُقُولَ لَمَّا كَانَتْ لَا خَطَرَ لَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنِّ وَالسَّلْوَى كَانَا أَفْضَلَ .
الثَّانِي- لَمَّا كَانَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَكَانَ فِي اسْتِدَامَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ أَجْرٌ وَذُخْرٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي طَلَبُوهُ عَارٍ مِنْ هَذِهِ الْخَصَائِلِ كَانَ أَدْنَى فِي هَذَا الْوَجْهِ.
الثَّالِثُ- لَمَّا كَانَ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ أَطْيَبَ وَأَلَذَّ مِنَ الَّذِي سَأَلُوهُ، كَانَ مَا سَأَلُوهُ أَدْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مَحَالَةَ.
الرَّابِعُ- لَمَّا كَانَ مَا أُعْطُوا لَا كُلْفَةَ فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجئ إِلَّا بِالْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتَّعَبِ كَانَ أَدْنَى.
الْخَامِسُ- لَمَّا كَانَ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ لَا مِرْيَةَ فِي حِلِّهِ وَخُلُوصِهِ لِنُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، الحبوب وَالْأَرْضُ يَتَخَلَّلُهَا الْبُيُوعُ وَالْغُصُوبُ وَتَدْخُلُهَا الشُّبَهُ، كَانَتْ أدنى من هذا الوجه.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" اهْبِطُوا مِصْراً"
قَالَ: مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ صَرَفَهَا أَيْضًا: أَرَادَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ بِعَيْنِهَا.
اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِهِمْ دُخُولَ الْقَرْيَةِ، وَبِمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُمْ سَكَنُوا الشَّامَ بَعْدَ التِّيهِ.
وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ دِيَارَ آلِ فِرْعَوْنَ وَآثَارَهُمْ، وَأَجَازُوا صَرْفَهَا.
قَالَ أَشْهَبُ قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ عِنْدِي مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ
وَالْمِصْرُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْحَدُّ. وَمِصْرُ الدَّارِ: حُدُودُهَا.

- ومعنى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أَيْ أُلْزِمُوهُمَا وَقُضِيَ عَلَيْهِمْ بِهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرْبِ الْقِبَابِ،
وَضَرَبَ الْحَاكِمُ عَلَى الْيَدِ، أَيْ حَمَلَ وَأَلْزَمَ.
وَالذِّلَّةُ: الذُّلُّ وَالصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ: الْفَقْرُ.
فَلَا يُوجَدُ يَهُودِيٌّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا خَالِيًا مِنْ زِيِّ الْفَقْرِ وَخُضُوعِهِ وَمَهَانَتِهِ.
- قوله تعالى: (وَباؤُا ) أَيِ انْقَلَبُوا وَرَجَعُوا
- ( بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ )
قد تقدم قوله تعالى في الفاتحة ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ) .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: " ذَلِكَ" أي هذا القضاء والحكم بالغضب من الله والذلة والمسكنة تعليله وسببه هو كفرهم بآيات الله من كتبه وكلامه ومعجزاته
وأيضا بقتلهم الأنبياء ،
و قَوْلُهُ تَعَالَى (بِغَيْرِ الْحَقِّ) لا يعني أن من النبيين من يستحق القتل أو قُتل بالحق ، ولكن هو تعظيم وتشنيع لفعلة قتلهم النبيين ، فالأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به ،فالنبي قد اصطفاه واختاره الله على خلقه فسبحان الله .
قال القرطبي : فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ؟
قِيلَ: ذَلِكَ كَرَامَةٌ لَهُمْ وَزِيَادَةٌ فِي مَنَازِلِهِمْ، كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخِذْلَانٍ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ قَطُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالٍ، وَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ.

معنى النبي لغة : هو مشتق من أنبأ يخبر .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَبَا يَنْبُو إِذَا ظَهَرَ.
فَالنَّبِيُّ مِنَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ، فَمَنْزِلَةُ النَّبِيِّ رَفِيعَةٌ.
 

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)


- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أنزل اليه.
و قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هادُوا) قال الطبري :وأما الذين هادوا، فهم اليهود، ومعنى هادوا: تابوا، يقال منه: هاد القوم يهودون هودا وهادة. وقيل: إنما سميت اليهود يهود من أجل قولهم: {إنا هدنا إليك} [الأعراف: 156] (وَالنَّصارى) والنصارى جمع، واحدهم نصران، كما واحد سكارى سكران، وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده على فعلان، فإن جمعه على فعالى؛ إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد النصارى نصراني،
وسموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة، وقيل هو من قوله : {الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 14] وقيل لقوله: {من أنصاري إلى الله} [آل عمران: 52]
(وَالصَّابِئِينَ) جمع صَابِئٍ، فَالصَّابِئُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ، فَالصَّابِئُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ .

وقال ابن زيد: الصابئون: دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم
- قوله ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا )

(قلت) من صدق وآمن من الذين ذكرهم الله فآمن بالله وحده واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا يحزنون .
- وقال ابن كثير فيها :
لما بيّن الله تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه، كما قال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30] .
 

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)
هَذِهِ الْآيَةُ تُفَسِّرُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [الأعراف: 171].
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى زَعْزَعْنَاهُ فَاسْتَخْرَجْنَاهُ مِنْ مكانه.
قال: وكل شيء قَلَعْتَهُ فَرَمَيْتَ بِهِ فَقَدْ نَتَقْتَهُ. وَقِيلَ: نَتَقْنَاهُ رَفَعْنَاهُ.
الطُّورُ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ التَّوْرَاةَ .
- الْقَوْلُ فِي سَبَبِ رَفْعِ الطُّورِ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ قَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا.
فَقَالُوا: لَا! إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَنَا اللَّهُ بِهَا كَمَا كَلَّمَكَ. فَصُعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا. فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا.
فَقَالُوا لَا.
فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا ضخما من جبال فلسطين فَجُعِلَ عَلَى رؤوسهم مِثْلُ الظُّلَّةِ
.

- ( مَا آتَيْناكُمْ ) أَعْطَيْنَاكُمْ.
- (بِقُوَّةٍ ) أَيْ بجد واجتهاد في العمل به وَإِخْلَاصٍ .

- (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أَيْ تَدَبَّرُوهُ وَاحْفَظُوا أَوَامِرَهُ وَوَعِيدَهُ، وَلَا تَنْسَوْهُ وَلَا تُضَيِّعُوهُ.
قال القرطبي : هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكُتُبِ، الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا لَا تِلَاوَتُهَا بِاللِّسَانِ وَتَرْتِيلُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ نَبْذٌ لَهَا قال تعالى ( نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) [البقرة: 101].

- قَوْلُهُ تَعَالَى: ( ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ) تَوَلَّى تَفَعَّلَ، وَأَصْلُهُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِدْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بالجسم، ثم استعمل في الاعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات.
وَقَوْلُهُ: (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ وَرَفْعُ الْجَبَلِ.
- قوله ( فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
أي فلولا رحمة الله واحسانه و لطفه وامهاله لكنتم من الخاسرين .

والفضل هو الزيادة .
 

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)



عن ابن كثير :

يقول تعالى: ولقد عرفتم يا معشر اليهود، ما حلّ من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوا لها من الشبك والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت. فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة.

فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم.

وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول تعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [الأعراف : 163 ] القصة بكمالها.

- وقال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس:

إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة- فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به.
فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرّم عليهم ما أحل لهم في غيره.

وكانوا في قرية بين أيلة والطور، يقال لها: "مدين"؛ فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها.
وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعًا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتًا صغيرًا ولا كبيرًا. حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعًا، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتًا سرًا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدًا في الساحل فأوثقه، ثم تركه.
حتى إذا كان الغد جاء فأخذه، أي: إني لم آخذه في يوم السبت ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل، وصنعوا سرًا زمانًا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في بالأسواق .
فقالت طائفة منهم من أهل البقية: ويحكم، اتقوا الله. ونهوهم عما يصنعون.
فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } لسخطنا أعمالهم { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأعراف : 164] .

قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم وفقدوا الناس فلم يرونهم قال: فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنًا! فانظروا ما هو. فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد.
قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الجميع منهم،

قال: وهي القرية التي قال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } الآية [الأعراف : 163] . وروى الضحاك عن ابن عباس نحوًا من هذا.

- (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) قال: يعني قردة ،
أذلة صاغرين مبعدين .

- وحكى بعض المفسرون أن مسخهم إنما كان معنويًا لا صوريًا ،
قال ابن كثير : بل الصحيح أنه معنوي صوري .

- ( نَكَالا ) أي: عاقبناهم عقوبة، فجعلناها عبرة، كما قال الله عن فرعون: { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } [النازعات : 25].

- وقوله: ( لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ) أي من القرى.
أي من بحضرتها من أهل القرى وما يعقبها .

و جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة .

- ( وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) قيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.


المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي: جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم .
 

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ، قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)



ذكر قصة بقرة بين اسرائيل

- لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم تفصيل قصة بقرة بني اسرائيل ، وما روي عنها في كتب التفسير قال عنها الامام ابن كثير :
والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا نصدق ولا نكذب فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم.
- عن عبيدة السلماني (1) ، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم ؟
_________
(1)
عبيدة بن عمرو السلماني من التابعين أخذ عن علي بن ابي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما .

فأتوا موسى، عليه السلام، فذكروا ذلك له، فقال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال: فلو لم يعترضوا البقر لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم ،
حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها،
فضربوه ببعضها فقام فقالوا: من قتلك؟
فقال: هذا، لابن أخيه. ثم مال ميتًا،
فلم يعط من ماله شيئًا، فلم يورث قاتل بعد.

- عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم .
- قوله تعالى: (بَقَرَةً) الْبَقَرَةُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَالثَّوْرُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ مِثْلُ نَاقَةٍ وَجَمَلٍ وَامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ.
وَأَصْلُهُ مِنْ قولك:
بَقَرَ بَطْنَهُ، أَيْ شَقَّهُ، فَالْبَقَرَةُ تَشُقُّ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ وَتُثِيرُهُ.
وَمِنْهُ "الْبَاقِرُ" لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْمَ وَعَرَفَ أَصْلَهُ، أَيْ شَقَّهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً)
لما جاءوا يسألون موسى أن يدعو الله أن يبين القاتل ، فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ مُوسَى وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ وَاحْتَكَمُوا فِيهِ عِنْدَهُ، قَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا ؟
وَالْهُزْءُ: اللَّعِبُ وَالسُّخْرِيَةُ ،
فَأَجَابَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ:" أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ" [البقرة: 67]
لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ جَوَابِ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ إِلَى الْهُزْءِ جَهْلٌ، فَاسْتَعَاذَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهَا صِفَةٌ تَنْتَفِي عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْجَهْلُ نَقِيضُ الْعِلْمِ. فَاسْتَعَاذَ مِنَ الْجَهْلِ .
- قال القرطبي :
مَسْأَلَةٌ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الِاسْتِهْزَاءِ بِدِينِ اللَّهِ وَدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ وَصَاحِبُهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ.
وَلَيْسَ الْمُزَاحُ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِسَبِيلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْزَحُ وَالْأَئِمَّةَ بَعْدَهُ.
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ فَمَازَحَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: جُبَّتُكَ هَذِهِ مِنْ صُوفِ نَعْجَةٍ أَوْ صُوفِ كَبْشٍ؟
فَقَالَ لَهُ: لَا تَجْهَلْ أَيُّهَا الْقَاضِي!
فَقَالَ له عبيد الله: وأين وجدت المزاح جَهْلًا!
فَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ رَآهُ جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ الْمَزْحَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ بسبيل.

( قلت ) :
الفرق بين المزح و الاستهزاء
:
المزْح هو الدعابة ونقيض الجد ،و المزاح لا يقتضي تحقير من يمازحه ولا اعتقاد ذلك وليس فيه أذى ، ألا ترى أن التابع يمازح المتبوع من الرؤساء والملوك ولا يقتضي ذلك تحقيرهم ولا اعتقاد تحقيرهم ولكن يقتضي الاستئناس بهم والملاطفة .
والاستهزاء
: السخرية و يقتضي تحقير المستهزأ به واعتقاد تحقيره ، وفيه لمز وتعريض بعيوب الآخرين .
قوله تعالى ( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ )

وَالْفَارِضُ: الْمُسِنَّةُ. وَقَدْ فَرَضَتْ تَفْرِضُ فُرُوضًا، أَيْ أَسَنَّتْ. وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْقَدِيمِ فَارِضٌ.
وَقِيلَ: الْفَارِضُ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بُطُونًا كَثِيرَةً فَيَتَّسِعُ جَوْفُهَا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الْفَارِضِ في اللغة الواسع .
وَالْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَحْمِلْ .

وَالْعَوَانُ: النِّصْفُ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بَطْنًا أَوْ بَطْنَيْنِ، وَهِيَ أَقْوَى مَا تَكُونُ مِنَ الْبَقَرِ وَأَحْسَنُهُ .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: ( فاقِعٌ لَوْنُها ) يُرِيدُ خَالِصًا لَوْنُهَا لَا لَوْنَ فِيهَا سِوَى لَوْنِ جِلْدِهَا.
(تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) قَالَ وَهْبٌ: كَأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصُّفْرَةُ تَسُرُّ النَّفْسَ.
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْهُمْ، وَفِي اسْتِثْنَائِهِمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ الْأَخِيرِ إِنَابَةٌ مَا وَانْقِيَادٌ، وَدَلِيلُ نَدَمٍ عَلَى عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ مَا اسْتَثْنَوْا مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهَا أَبَدًا)

( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا )
أي انها وحشية غير مستأنسة لَمْ تُذَلَّلْ بالعمل .
وأنها كانت لا تحرث الأرض ولاتسقي الزرع .
وَإِثَارَةُ الْأَرْضِ: تَحْرِيكُهَا .
وَفِي القرآن " وَأَثارُوا الْأَرْضَ" [الروم: 9] أَيْ قَلَّبُوهَا لِلزِّرَاعَةِ. وَالْحَرْثُ: مَا حُرِثَ وَزُرِعَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُسَلَّمَةٌ) أَيْ أَنَّهَا بَقَرَةٌ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعَرَجِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ .

(لَا شِيَةَ فِيها) أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ مُعْظَمَ لَوْنِهَا، هِيَ صَفْرَاءُ كُلُّهَا لَا بَيَاضَ فِيهَا وَلَا حُمْرَةَ وَلَا سَوَادَ .
وَأَصْلُ" شِيَةَ" وَشِي ، وَالشِّيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَشْيِ الثَّوْبِ إِذَا نُسِجَ عَلَى لَوْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: ( قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ) أَيْ بَيَّنْتَ الْحَقَّ .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَذَبَحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ تَثْبِيطِهِمْ فِي ذَبْحِهَا وَقِلَّةِ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ .
 

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

قوله ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا )

هَذَا الْكَلَامُ مُقَدَّمٌ عَلَى أَوَّلِ الْقِصَّةِ، والتَّقْدِيرُ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ، فَقَالَ لهم مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِأن تذبحوا بقرة .

- قال ابن الجوزي : هذه الآية مؤخرة في التلاوة مقدمة في المعنى لأن السبب في الأمر بذبح البقرة هو قتل النفس ،
فتقدير الكلام وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ثم سألتم موسى فقال { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } .

- ومعنى" فَادَّارَأْتُمْ" أي اخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ ،. وَأَصْلُهُ تَدَارَأْتُمْ ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ .
- (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) أي أن الله سيبين أمر القتيل والذي
كنتم تكتمون خبر قاتله .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها)
قِيلَ: ضربوه بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ آلَةُ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: بِالْفَخِذِ. وَقِيلَ: بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا،
وَالْمَقْطُوعُ بِهِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهَا،
فَلَمَّا ضُرِبَ بِهِ حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ.

- قوله تعالى { كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى } فيه قولان
احدهما انه خطاب لقوم موسى
والثاني لمشركي قريش احتج عليهم إذ جحدوا البعث بما يوافق عليه أهل الكتاب .
وآياته ، عجائبه .
..

مْسأَلَةٌ فقهية :
اسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في رواية عنه عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي.
وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالُوا: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي، خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ.

وَلَا خِلَافَ أَنَّ دَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْصُومٌ مَمْنُوعٌ إِبَاحَتُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ،

وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ قَوْلِ الْمَقْتُولِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ.
وَأَمَّا قَتِيلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَانَتْ مُعْجِزَةً وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِيهِ،
وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ بِقَاتِلِهِ خَبَرًا جَزْمًا لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ، فَافْتَرَقَا.

- و القسامة مصدر أقسم قسما وقسامة ، ومعناه حلف حلفا
والمراد بالقسامة ههنا الأيمان المكررة والقسم المتكرر في دعوى القتل من خمسين شخصا بالغا .
حيث يوجد قتيل ولا يعلم قاتله ، فيدعي أولياء المقتول على شخص أنه هو قاتله ومعهم قرينة مثل أن تواجد المقتول في بيت المشتبه فيه ،
أو وجود عداوة بين المقتول والمدعى عليه .

والأصل في القسامة ما روي أن محيصة بن مسعود و عبد الله بن سهل انطلقا الى خيبر فتفرقا في النخيل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة ومحيصة الى النبي صلى الله عليه و سلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صى الله عليه وسلم : كبر كبر - أو قال : ليبدأ الأكبر فتكلما في أمر صاحبهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع اليكم برمته فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟
قال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ،
قالوا : يا رسول الله قوم كفار ضلال
قال : فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبله قال سهل : فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الابل ]
حديث متفق عليه .

..
قوله (
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ )
- نذكر هاهنا قوله تعالى في سورة الزمر
( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ )

-و الْقَسْوَةُ: أي الصَّلَابَةُ وَالشِّدَّةُ وَالْيُبْسُ
وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّهَا مِنَ الْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ لِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ )
الْمُرَادُ قُلُوبُ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ .

قال ابن كثير :
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } كله
{ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } التي لا تلين أبدًا.
ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ
وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16].

- قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } .
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة:
ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } الآية،
وقال: { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ }
و { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } الآية،
و { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
و { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } الآية، { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ } الآية،

وفي الصحيح: "هذا جبل يحبنا ونحبه"،
وكحنين الجذع ، المتواتر خبره،
وفي صحيح مسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن"
وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة،

وغير ذلك مما في معناه.
- اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }
بعد الإجماع على استحالة كونها للشك،
فقال بعضهم: "أو" هاهنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى: { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان: 24].

وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين .

وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل: أكلي حلو أو حامض، أي: لا يخرج عن واحد منهما، أي: وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم.

وقال آخرون: "أو" هاهنا بمعنى بل، تقديره فهي كالحجارة بل أشد قسوة،
وكقوله: { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77]

وقوله { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]
و{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم: 9]
ورجح ابن جرير معنى التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
..
 

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ"
هَذَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، كَأَنَّهُ أَيْأَسَهُمْ مِنْ إِيمَانِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ مِنَ الْيَهُودِ،

أَيْ إِنْ كَفَرُوا فَلَهُمْ سَابِقَةٌ فِي ذَلِكَ.
وَالْخِطَابُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ لَهُمْ حِرْصٌ عَلَى إِسْلَامِ الْيَهُودِ لِلْحِلْفِ وَالْجِوَارِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً.

أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّوءِ الَّذِينَ مَضَوْا.
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ "

ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى عليه الصلاة والسلام ، وقد قال الله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [التوبة: 6]، أي: مبلَّغًا إليه.

" فريق منهم "، أي علماء اليهود .كما قال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم.

- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ بماذا عَرَفَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ قَبْلَ ذَلِكَ خِطَابَهُ،
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سَمِعَ كَلَامًا لَيْسَ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْطِيعٌ وَلَا نَفَسٌ، فَحِينَئِذٍ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامًا لَا مِنْ جِهَةٍ، وَكَلَامُ الْبَشَرِ يُسْمَعُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ، عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ صَارَ جَسَدُهُ كُلُّهُ مَسَامِعَ حَتَّى سَمِعَ بِهَا ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَعَلِمَ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ.

- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ "
قال من بعد ما عقلوه أي من بعد ما عرفوه ووعوه وعلموا معانيه .
وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ قَدْ سَلَفَتْ لِآبَائِهِمْ أَفَاعِيلُ سُوءٍ وَعِنَادٍ، فَهَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ السُّنَنِ، فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ!.
وَدَلَّ هَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ الْمُعَانِدِ فِيهِ بَعِيدٌ مِنَ الرُّشْدِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَلَمْ ينهه ذلك عن عناده.
- (قلت ) حرّف الشيء أي أماله ، وحرّف الكلام أي غيّره وصرفه عن معانيه .
اما بتأويل معناه على غير ما وضع أو تغيير و تبديل حروف الكلام .

- قال ابن الجوزي : وفي قوله تعالى { وهم يعلمون } قولان
أحدهما وهم يعلمون أنهم حرفوه .
والثاني وهم يعلمون عقاب تحريفه .
قلت: (وهم يعلمون ) أي تحريفهم ليس عن خطأ بل عمد .


___________
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)


- ابن كثير :

- وقوله: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } الآية .

عن ابن عباس: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } أي بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة.
{ وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا } لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم.
فأنزل الله: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر، ونجد في كتابنا. اجحدوه ولا تقروا به.

- وقال أبو العالية: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } يعني: بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.

و عن قتادة: قال: كانوا يقولون: سيكون نبي. فخلا بعضهم ببعض فقالوا: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } .

قول آخر في المراد بالفتح: عن مجاهد، في قوله تعالى: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: "يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت".
فقالوا: من أخبر بهذا الأمر محمدًا ؟ ما خرج هذا القول إلا منكم { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } بما حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم.
- القرطبي :
- وَمَعْنَى" فَتَحَ" حَكَمَ.
وَالْفَتْحُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ" أَيِ الْحَاكِمِينَ،
وَالْفَتَّاحُ: الْقَاضِي بِلُغَةِ الْيَمَنِ، يُقَالُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْفَتَّاحُ، قِيلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْصُرُ الْمَظْلُومَ عَلَى الظَّالِمِ.
وَالْفَتْحُ: النَّصْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا"،
وَقَوْلُهُ:" إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ" .
وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ.
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ " الْمَعْنَى لِيَحْتَجُّوا عَلَيْكُمْ بِقَوْلِكُمْ عند ربكم ، يَقُولُونَ كَفَرْتُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ وَقَفْتُمْ عَلَى صِدْقِهِ.
وَالْحُجَّةُ: الْكَلَامُ الْمُسْتَقِيمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَحَجَّةُ الطَّرِيقِ. وَحَاجَجْتُ فُلَانًا فَحَجَجْتُهُ، أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْحُجَّةِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى).
- " أَفَلا تَعْقِلُونَ" قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْأَحْبَارِ لِلْأَتْبَاعِ.
وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ.
- ثُمَّ وَبَّخَهُمْ تَوْبِيخًا يُتْلَى فَقَالَ:" أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ".
فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ" يَعْلَمُونَ" بِالْيَاءِ،
وَابْنِ مُحَيْصِنٍ بِالتَّاءِ، خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالَّذِي أَسَرُّوهُ هو كُفْرُهُمْ، وَالَّذِي أَعْلَنُوهُ الْجَحْدُ بِهِ.

___________


وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)


- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ" أَيْ مِنَ الْيَهُودِ.
أُمِّيُّونَ، أَيْ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، وَاحِدُهُمْ أُمِّيٌّ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ أُمَّهَاتِهَا لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَةَ وَلَا قِرَاءَتَهَا،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ) الْحَدِيثَ.

- قَوْلُهُ تَعَالَى" لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ"
" إِلَّا" هَا هُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ"
- الْأَمَانِيُّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَهِيَ التِّلَاوَةُ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ "

أَيْ إِذَا تَلَا الكتاب أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ.
- وَالْأَمَانِيُّ أَيْضًا الْأَكَاذِيبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَمَنَّيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، أَيْ مَا كَذَبْتُ وافتلعت .
- وَالْأَمَانِيُّ أَيْضًا مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ .
- قَوْلُهُ تَعَالَى" وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ"
" إِنْ" بِمَعْنَى " مَا " النَّافِيَةِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ". أي ما الكافرون الا في غرور .
و" يَظُنُّونَ" أي يَكْذِبُونَ وَيُحْدِثُونَ، لِأَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصِحَّةِ ما يتلون،
وإنما هم مقلدون لاحبارهم فيها يقرءون به .
- قَالَ قَتَادَةُ:" إِلَّا أَمانِيَّ" يَعْنِي أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ ،
(قلت ) قول قتادة مناسب لقوله تعالى " وان هم الا يظنون . "
فيكون معنى الآية : ومن اليهود من لا يعرفون الكتابة ولا القراءة فلا يعلمون أحكام ومعاني الكتاب الا ما يتمنونه على الله فلا يكون علمهم هذا سوى ظنا وان الظن لا يغني من الحق شيئا .
وعن مجاهد قال: أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب ، أمانيّ يتمنونها.
- قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى النَّحْوِيُّ
أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الظَّنَّ عِلْمًا وَشَكًّا وَكَذِبًا،

وَقَالَ: إِذَا قَامَتْ بَرَاهِينُ الْعِلْمِ فَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ بَرَاهِينِ الشَّكِّ فَالظَّنُّ يَقِينٌ، وَإِذَا اعْتَدَلَتْ بَرَاهِينُ الْيَقِينِ وَبَرَاهِينُ الشَّكِّ فَالظَّنُّ شَكٌّ،
وَإِذَا زَادَتْ بَرَاهِينُ الشَّكِّ عَلَى بَرَاهِينِ الْيَقِينِ فَالظَّنُّ كَذِبٌ .
__________


فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)



قَوْلُهُ:" فَوَيْلٌ" اخْتُلِفَ فِي الْوَيْلِ ،
قلت والصحيح :

ما قاله الأصمعي: الويل تفجع ، و سِيبَوَيْهِ : وَيْلٌ ، لِمَنْ وَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ، وَوَيْحٌ ، زَجْرٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَكَةِ .
وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى:" يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ ".
- قوْلُهُ تَعَالَى:" بِأَيْدِيهِمْ" تَأْكِيدٌ،
فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَتْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ"، وَقَوْلِهِ" يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ"
وَقِيلَ: فَائِدَةُ" بِأَيْدِيهِمْ" بَيَانٌ لِجُرْمِهِمْ وَإِثْبَاتٌ لِمُجَاهَرَتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّى الْفِعْلَ أَشَدُّ مُوَاقَعَةً مِمَّنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ وَإِنْ كَانَ رَأْيًا لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ:" بِأَيْدِيهِمْ" كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ دُونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَةً فِي كَتْبِ أَيْدِيهِمْ.


قال القرطبي : فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا التَّحْذِيرُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ فِي الشَّرْعِ، فَكُلُّ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ أَوِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ،
وَقَدْ حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ لَمَّا قَدْ عَلِمَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالَ: (أَلَا مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً) الْحَدِيثَ .
فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يُحْدِثُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدِّينِ خِلَافَ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّتِهِ أَوْ سُنَّةِ أَصْحَابِهِ فَيُضِلُّوا به الناس،


وقد وقع ما حذره وشاع ، كثر وَذَاعَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
- وقوله تعالى: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان، والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت .
....
 

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)


- قوله تعالى ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً )
قال الطبري :حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: " {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} قال : " قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا، نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل، فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه".
( قل أتخذتم عند الله عهدا )
أي هل عهد إليكم الله أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار .
قوله تعالى { بلى من كسب سيئة }
قال ابن الجوزي : "بلى" بمنزلة نعم . إلا أن " بلى" جواب النفي .و"نعم " جواب الإيجاب .
قال الفراء إذا قال الرجل لصاحبه ما لك عليّ شئ .فقال الآخر نعم ،كان تصديقا أن لاشئ له عليه ،
ولو قال بلى كان ردا لقوله .

قال ابن الانباري وإنما صارت بلى تتصل بالجحد لأنها رجوع عن الجحد الى التحقيق فهي بمنزلة "بل " ،
و "بل " سبيلها أن تأتي بعد الجحد كقولهم ما قام أخوك بل أبوك ،
وإذا قال الرجل للرجل ألا تقوم ؟ فقال له بلى ، أراد بل أقوم
فزاد الألف على بل ليحسن السكوت عليها ،لأنه لو قال بل ، كان يتوقع كلاما بعد بل ،
فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب
.
- ومعنى "بلي من كسب سيئة ": بل من كسب سيئة .
قال الزّجّاج " بلى" رد لقولهم { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة }

- والسيئة هاهنا، الشرك، وَالْخَطِيئَةُ : الْكَبِيرَةُ.

{ وأحاطت به خطيئته } أي أحدقت به خطيئاته .

- يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنه من كفر بالله وأحاطت به خطيئته ، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع عمله سيئات، فهذا من أهل النار .
- قال تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

ذكر الله تعالى في مقابل الذين كفروا وأحاطت بهم خطاياهم ،
والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات -من العمل الموافق للشريعة-فهم من أهل الجنة.

وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا*

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [النساء: 123 ، 124].

___________

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)


قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )
وهي المواثيق التي أخذها الله عليهم على ألسنة أنبيائهم مثل يعقوب .
- وتلك العهود كان أولها قَوْلُهُ:" لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" .
وَعِبَادَةُ اللَّهِ: إِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقُ رُسُلِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَنْزَلَ فِي كُتُبِهِ.
وقال الرازي : ولا شك أن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره، مسبوق بالعلم بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد والبراءة عن الصاحبة والأولاد، ومسبوق أيضا بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة، فقوله: لا تعبدون إلا الله يتضمن كل ما اشتمل عليه علم الكلام وعلم الفقه والأحكام لأن العبادة لا تتأتى إلا معها.
- وثانيها قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.
وَقَرَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ،
لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالنَّشْءَ الثَّانِيَ- وَهُوَ التَّرْبِيَةُ- مِنْ جِهَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَلِهَذَا قَرَنَ تَعَالَى الشُّكْرَ لَهُمَا بِشُكْرِهِ فَقَالَ:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ".

وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ: مُعَاشَرَتُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمَا، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، وَالدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ بَعْدَ مَمَاتِهِمَا، وَصِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي" الْإِسْرَاءِ إِنْ شَاءَ الله تعالى.

وثالثها قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَذِي الْقُرْبى "أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَاتِ بِصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ.
وَالْقُرْبَى: بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى وَالْعُقْبَى .
- ورابعها قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْيَتامى " : الْيَتَامَى عُطِفَ أَيْضًا، وَهُوَ جَمْعُ يَتِيمٍ، مِثْلُ نَدامَى جَمْعُ نَدِيمٍ.

وَالَيْتُمْ فِي بَنِي آدَمَ بِفَقْدِ الْأَبِ، وَفِي الْبَهَائِمِ بِفَقْدِ الْأُمِّ.
وَأَصْلُهُ الِانْفِرَادُ، يُقَالُ: صَبِيٌّ يَتِيمٌ، أي منفرد من أبيه ، وَدُرَّةٌ يَتِيمَةٌ: لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ،
والجمعة اليتيمة أي الوحيدة ليس بعدها جُمع .
وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى الرَّأْفَةِ بِالْيَتِيمِ وَالْحَضِّ عَلَى كَفَالَتِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ .

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ).
وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

وخامس العهود قَوْلُهُ تَعَالَى" وَالْمَساكِينِ"
" الْمَسَاكِينِ" عَطْفٌ أَيْضًا أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ وَأَذَلَّتْهُمْ.
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْحَضَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِ الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَأَحْسَبُهُ قَالَ- وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ ) .
- وسادسها قوله تعالى:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً": التَّقْدِيرُ وَقُولُوا لِلنَّاسِ قَوْلًا ذَا حُسْنٍ .
قُولُوا لَهُمُ الطَّيِّبَ مِنَ الْقَوْلِ، وَجَازُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَا تُحِبُّونَ أَنْ تُجَازَوْا بِهِ،. وَهَذَا كُلُّهُ حَضٌّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ،
فينبغي للإنسان أن يكون قوله لِلنَّاسِ لَيِّنًا وَوَجْهُهُ مُنْبَسِطًا طَلْقًا مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالسُّنِّيِّ وَالْمُبْتَدِعِ، مِنْ غَيْرِ مُدَاهَنَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَهُ بِكَلَامٍ يَظُنُّ أَنَّهُ يُرْضِي مَذْهَبَهُ،
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ:" فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ". فَالْقَائِلُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ، وَالْفَاجِرُ لَيْسَ بِأَخْبَثَ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَقَدْ أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِاللِّينِ مَعَهُ.

- قوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ" ،وَالْخِطَابُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ .
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ"
الْخِطَابُ لِمُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ تَوَلِّي أَسْلَافِهِمْ إِذْ هُمْ كُلُّهُمْ بِتِلْكَ السَّبِيلِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ مِثْلُهُمْ ،
" إِلَّا قَلِيلًا" كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ.
- " وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.
وَالْإِعْرَاضُ وَالتَّوَلِّي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مُخَالَفٌ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ.
وَقِيلَ: التولي بِالْجِسْمِ، وَالْإِعْرَاضُ بِالْقَلْبِ.
وقيل :" وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" حَالٌ، لِأَنَّ التَّوَلِّيَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْإِعْرَاضِ.

قال ابن كثير : وأخبر الله أنهم تولوا عن ذلك كله،
أي: تركوه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به، إلا القليل منهم،
وقد أمر تعالى هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء، بقوله: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } [النساء: 36]
فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة.

__________


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ،أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)


قال ابن كثير :
قول، تبارك وتعالى، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج،
وذلك أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل: بنو قينقاع. وبنو النضير حلفاء الخزرج. وبنو قريظة حلفاء الأوس.

فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه،
ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ }

ولهذا قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرج بعضكم بعضا من منزله، ولا يظاهر عليه،
وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة،
كما قال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

وقوله { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.

{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ }
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق، ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله.

واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } جزاء على ما كتموه من كتاب الله الذي بأيديهم

{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي: استحبوها على الآخرة واختاروها .

{ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ }
.

قال القرطبي :
وهذا كله محرم عَلَيْنَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْفِتَنِ فِينَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قوله تعالى:" تَظاهَرُونَ"
مَعْنَى" تَظاهَرُونَ" تَتَعَاوَنُونَ، مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَوِّي بَعْضًا فَيَكُونُ لَهُ كَالظَّهْرِ .

وَالْإِثْمُ: الْفِعْلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ الذَّمَّ.
- وَالْعُدْوَانُ: الْإِفْرَاطُ فِي الظُّلْمِ وَالتَّجَاوُزُ فِيهِ.
- و أُسَارَى : جمع أسير . مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ سير من جلد الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَحْمَلُ فَسُمِّيَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ يُشَدُّ وَثَاقُهُ .
فَأَمَّا الْأَسْرُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ " فَهُوَ الْخَلْقُ.
وَأُسْرَةُ الرجل :رهطه، لأنه يتقوى بهم.

- قوله تعالى:" تُفادُوهُمْ" كَذَا قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَالْبَاقُونَ
" تَفْدُوهُمْ" مِنَ الْفِدَاءِ. وَالْفِدَاءُ: طَلَبُ الْفِدْيَةِ فِي الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ.
قال القرطبي : قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِدَاءُ الْأُسَارَى وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ.


" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ" وَهُوَ التَّوْرَاةُ .
- وَالْخِزْيُ : الذُلّ الْهَوَانُ .
...
 

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)



قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ.

" وَقَفَّيْنا" أَيْ أَتْبَعْنَا. كقوله تعالى "ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْمٌ " أَي لا تَتَّبِع ما لا تعلم ، مَأْخُوذٌ مِنْ إِتْبَاعِ الْقَفَا وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ.
تَقُولُ اسْتَقْفَيْتُهُ إِذَا جِئْتَ مِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ قَافِيَةُ الشِّعْرِ، لِأَنَّهَا تَتْلُو سَائِرَ الْكَلَامِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ).

قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قوله تعالى:" ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ".
وَكُلُّ رَسُولٍ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى فَإِنَّمَا جَاءَ بإثبات التوراة والأمر
بِلُزُومِهَا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَيُقَالُ: رُسُلٌ وَرُسْلٌ لُغَتَانِ، الْأُولَى لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ تَمِيمٍ .
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ" أَيِ الْحُجَجَ وَالدَّلَالَاتِ، والمعجزات ،
من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، وإبرائه الأسقام، وإخباره بالغيوب .

و " أَيَّدْناهُ" أَيْ قَوَّيْنَاهُ. " بِرُوحِ الْقُدُسِ" هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
ودليله قوله تعالى: ( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) الشعراء]

- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ"
أَيْ بِمَا لَا تحب ، وَحُذِفَتِ الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ، أَيْ بِمَا لَا تَهْوَاهُ.

" اسْتَكْبَرْتُمْ" عَنْ إِجَابَتِهِ احْتِقَارًا لِلرُّسُلِ، وَاسْتِبْعَادًا لِلرِّسَالَةِ.
وَأَصْلُ الْهَوَى الْمَيْلُ إلى الشيء، ويجمع أَهْوَاءً .
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ"" فَفَرِيقاً" فَكَانَ مِمَّنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ

" وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ" ، وَمِمَّنْ قَتَلُوهُ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .

وقال الزمخشري في قوله: { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } إنما لم يقل: وفريقًا قتلتم؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل -أيضًا-لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر، وقد قال، عليه السلام، في مرض موته: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري"، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره .
والأَبْهَرُ عِرْقٌ إِذا انقطع مات صاحبه وهما أَبْهَرانِ يخرجان من القلب ثم يتشعب منهما سائر الشَّرايين .
_________


وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)


- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا" يَعْنِي الْيَهُودَ .
- قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله: { غُلْفٌ } قال: يقول: قلبي في غلاف فلا يَخْلُص إليه ما تقول، قرأ { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }، والغلاف الغشاء والغطاء قال الطبري كما يقال للرجل الذي لم يختتن: أغلف والمرأة: غلفاء.

وعن قتادة: " {وقالوا قلوبنا غلف} أي لا تفقه ". قلت : يبررون عدم ايمانهم بعدم فهمهم ما تقول الرسل كقوله " قَالُواْ ‌يَا شُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا " هود ،

ولهذا قال تعالى: { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } ، أي: ليس الأمر كما ادعوا بل
قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [النساء: 155] .

- وقد اختلفوا في معنى قوله: { فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } وقوله: { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } ،
فقال بعضهم: أي فقليل من يؤمن منهم .
وقيل: فقليل إيمانهم. بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم . و الْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ وَيَكْفُرُونَ بِأَكْثَرِهِ .

_________


وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

يقول تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ } يعني اليهود { كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وهو: القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } يعني: من التوراة،
وقوله: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا }
أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم .
- " وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ" أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ. وَالِاسْتِفْتَاحُ الِاسْتِنْصَارُ. اسْتَفْتَحْتُ: اسْتَنْصَرْتُ.
والنصر: فتح شي مُغْلَقٍ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَتَحْتُ الْبَابَ.

و عن ابن عباس: أن يَهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته. فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: {فلعنة الله على الكافرين}أي فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحق عليهم لله ولأنبيائه المنكرين، لما قد ثبت عندهم صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ففي إخبار الله عز وجل عن اليهود بما أخبر الله عنهم بقوله: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد قيام الحجة بنبوته عليهم وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إليهم

__________________


بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)


{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ }
أي ساء ما باعوا اليهود به أنفسهم ، فقد اشتروا الكفر بالإيمان والباطل بالحق .
وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية أن تنزل الرسالة على العرب ،


{ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ولا حسد أعظم من هذا.
( فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ) أي استوجبوا، واستحقوا، واستقروا بغضب على غضب.
وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد، وبالقرآن عليهما السلام .
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِئْسَمَا " بِئْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُسْتَوْفِيَةٌ لِلذَّمِّ،
كَمَا أَنَّ" نِعْمَ" مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْمَدْحِ .و" مَا" فَاعِلَةُ بِئْسَ .
وَالتَّقْدِيرُ :بِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا.
....
 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)


يعني بقوله جل ثناؤه: {وإذا قيل لهم} وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {آمنوا} أي صدقوا {بما أنزل الله} يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا نؤمن} أي نصدق {بما أنزل علينا} يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى.
- قَوْلُهُ تَعَالَى" قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ"
رَدٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَتَكْذِيبٌ مِنْهُ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ، و الْمَعْنَى: فَكَيْفَ قَتَلْتُمْ وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ ذَلِكَ! .
"قلت. فيه دلالة أن الايمان هو الايمان بما أنزل الله ، وعلامة هذا الايمان والتصديق هو اتباعه والعمل به " .
قال القرطبي: فَالْخِطَابُ لِمَنْ حَضَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أَسْلَافُهُمْ. وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ لِأَبْنَائِهِمْ وهم لم يقتلون نبيا بأيديهم ،انما لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَتَلُوا، كَمَا قَالَ:" وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ " فَإِذَا تَوَلَّوْهُمْ فَهُمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا فِعْلَهُمْ فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ.
- قوله تعالى " إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُعْتَقِدِينَ الْإِيمَانَ فَلِمَ رَضِيتُمْ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ!

- قال ابن كثير :
يقول تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب
{ آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } أي على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه
{ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك،


ثم قال تعالى: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها ، وأنتم تعلمون صدقهم ؟

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)


- قوله { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعة على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله.
والبينات هي: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفَلْق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها
{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } أي: معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته. وقوله { مِنْ بَعْدِهِ } أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال تعالى: { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } [الأعراف: 148]،
{ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله،
وقيل "اتخذتم العجل" أي صناعتكم العجل من الحلي "وأنتم ظالمون" أي مشركون به .

- قال القرطبي في قوله "ثم " ( ثم اتخذتم العجل ) أَبْلَغُ مِنَ الْوَاوِ فِي التَّقْرِيعِ، أَيْ بَعْدَ النظر في الآيات، أو الإتيان بِهَا اتَّخَذْتُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا فعلوا ذلك بعد مهلة .
( قلت : وايضا لكثرة وطول وقت معايشة نزول الآيات)
.
وقال ابن عطية : هذه الآية ردّ عليهم في أن من آمن بما نُزل عليه لا يتخذ العجل الها .

_____________
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)


يعدد، تبارك وتعالى، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه؛ ولهذا قال: {قالوا سمعنا وعصينا} وقد تقدم تفسير ذلك.

وَمَعْنَى" اسْمَعُوا" أَطِيعُوا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِإِدْرَاكِ الْقَوْلِ فَقَطْ،
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اعْمَلُوا بِمَا سَمِعْتُمْ وَالْتَزِمُوهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَيْ قَبِلَ وَأَجَابَ.
قوله "قالوا سمعنا وعصينا ": لاشك أن إظلال الجبل أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم سمعنا وعصينا وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد.

- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ" أَيْ أُشربوا حُبُّ الْعِجْلِ .
وَالْمَعْنَى: جُعِلَتْ قُلُوبُهُمْ تَشْرَبُهُ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَمَجَازٌ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَكُّنِ أَمْرِ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ.
كما َفِي الْحَدِيثِ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .


وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبِّ الْعِجْلِ بِالشُّرْبِ دُونَ الْأَكْلِ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَتَغَلْغَلُ فِي الْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى بَاطِنِهَا، وَالطَّعَامُ مُجَاوِرٌ لَهَا غَيْرُ مُتَغَلْغِلٍ فِيهَا.
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ" ، الايمان بشيء يفرض لوازم وأشياء أخرى وهذا معنى الأمر ، والتفسير أي بئس الأشياء التي أمركم بها ايمانكم بالتوراة فعلها مثل عبادة العجل وقتل الأنبياء والكفر بما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
...
 

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)


قوله ( قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) مثل قولهم" لن يدخل الجنة إلا من كان يهودا او نصارى" فإن كان هذا حق ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ،
فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم

{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
أي: بِعِلْمِهِم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات .
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* ،
فهم - عليهم لعائن الله - لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه،
وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، وقولهم لن تمسنا النار الا اياما معدودة ،
دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم، أو من المسلمين.

فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم.
و قيل : إنه لا يلزم من كون أهل الكتاب يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم ، أنهم يتمنوا الموت ،فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت،

وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث: "خيركم من طال عمره وحسن عمله"
وجاء في الحديث الصحيح النهي عن تمني الموت، وفي بعض ألفاظه: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب" ،

ولأهل الكتاب أيضا مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون -أيها المسلمون-أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت؛ فكيف تلزمونا بما لا نُلزمكم ؟
اذن فتمني الموت المراد منه هنا هو الدعاء على أكذب الفريقين كما صح عن ابن عباس .

[وسميت هذه المباهلة تمنيًا؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت؛ لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت]حيث المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة .
قلت : " جوابا على ذلك :بل يجوز تمني الموت مثل تمني الشهادة في سبيل الله ففي الحديث " مَنْ سأَلَ اللَّه تَعَالَى الشَّهَادةَ بِصِدْقٍ بلَّغهُ اللهُ منَازِلَ الشُّهَداءِ وإنْ ماتَ على فِراشِهِ
." رواه مسلم.
وأما النهي عن تمني الموت في الحديث هو خاص بتمني الموت عند نزول الضرّ لأن فيه قنوط من رحمة الله وعدم الصبر ، والله أعلم " .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح حديث النهي عن تمني الموت :

وهذا يدل على أن النهي عن تمني الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة،
لأن في التمني المطلق نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء .

وقال الحافظ في موضع آخر :وفي قصة بني قريظة من الفوائد وخبر سعد بن معاذ جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت .

خبر سعد بن معاذ رضي الله عنه :
عَنْ عَائِشَةَ :أَنَّ سَعْدًا قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجُوهُ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي لَهُ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ
وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتَتِي فِيهَا فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ فَلَمْ يَرُعْهُمْ وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إِلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

قوله : وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا .

أي أن اليهود أحرص الخلق على طول عُمْر، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر،

فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم.
وما يحذرون واقع بهم لا محالة، حتى وهم أحرص الناس من المشركين الذين لا كتاب لهم.
وهذا من باب عطف الخاص على العام.
- ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع بما عنده من العلم.
وقد ود هؤلاء أن يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمّر، كما عمّر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا.


- ( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) أي: خبير بما يعمل عباده من خير وشر، وسيجازي كل عامل بعمله.
...
 

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)


قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله:
أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك.
فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جَرَت بينَهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته.
وذكر أحاديث عن أن اليهود " لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عمن يأتيه من الملائكة قال : جبريل، قال : ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه .
فقالوا : فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة لبايعناك وصدقناك .
قال فما منعكم أن تصدقوه ؟
قالوا : إنه عدونا، فنزلت الآية .

وفي رواية (" قالوا جبريل ينزل بالحرب والقتل والعذاب، لو كان ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر )

وحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطرق ، أن عمر كان يأتي اليهود فيسمع من التوراة فيتعجب كيف تصدق ما في القرآن، قال فمرّ بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نشدتكم بالله أتعلمون أنه رسول الله ؟
فقال له عالمهم : نعم نعلم أنه رسول الله .
قال : فلم لا تتبعونه ؟
قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة وسلما، وإنه قرن بنبوته من الملائكة عدونا .
قال: قلت: ومن عدوكم ؟ ومن سلمكم؟
قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل.
قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل، وفيم سالمتم ميكائيل؟
قالوا: إن جبريل مَلَك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا،
وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا.
..
قال عمر ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خَوْخة لبني فلان، فقال: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نزلن قبل؟" فقرأ عليّ: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } حتى قرأ هذه الآيات.
قال: قلت: بأبي وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح عن حديث عمر : وهذه طرق يقوى بعضها بعضا، ويدل على أن سبب نزول الآية قول اليهودي المذكور لا قصة عبد الله ابن سلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام : إن جبريل عدو اليهود، تلا عليه الآية مذكرا له سبب نزولها والله أعلم .

وأما تفسير الآية فقوله تعالى: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ }
أي: من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله مَلَكي [عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام]
ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل،
وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } [النساء:150، 151]

فحكم عليهم بالكفر المحقّق، إذْ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله؛
لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم: 64] وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء: 192-194]
وقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب" .
ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه، فقال: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }
أي: مِنَ الكتب المتقدمة .

{ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي: هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين. كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44] ،
وقال تعالى: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء: 82] .

- ثم قال تعالى: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ }
يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي -ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [الحج: 75] .

وقوله { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة، ثم عموم الرسل،
ثم خصصا بالذكر؛ لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛
لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم، فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا؛ لأنه -أيضًا-ينزل على الأنبياء بعض الأحيان، كما قُرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبريل أكثر، وهي وظيفته،
وميكائيل موكل بالقطر والنبات، هذاك بالهدى وهذا بالرزق،
كما أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ للبعث يوم القيامة .

- وحكى البخاري، ورواه ابن جرير عن عكرمة أنه قال:
جبر، وميك، وإسراف: عُبَيد. وإيل: الله.

و عن ابن عباس، قال: إنما قوله: "جبريل" كقوله: "عبد الله" و "عبد الرحمن".
وقيل جبر: عبد. وإيل: الله.

وفي قراءات جبريل :
- جِبْرِيلُ . - جَبْرِيلُ . - جَبْرَئِيلُ . – جَبْرَئِلُ . – جَبْرَئِينُ .
___________

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)


- قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي: أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارُهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم، التي كانت في التوراة. فأطلع الله في كتابه الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يَدْعُه إلى هلاكها الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديقُ من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وَصَفَ، من غير تعلُّم تعلَّمه من بَشَريٍّ ولا أخذ شيئًا منه عن آدمي.
والْفاسِقُونَ هنا الخارجون عن الإيمان، فهو فسق الكفر، والتقدير: ما يَكْفُرُ بِها أحد إِلَّا الْفاسِقُونَ.
______________


أَوَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)


- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً"
الْوَاوُ وَاوُ الْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ:" أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ "،" أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ "، وَعَلَى ثُمَّ كَقَوْلِهِ:" أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ "

- والمعني
فِي ( نبذه فريق منهم ) هو مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ الضَّيْفِ ، حبر من أحبار اليهود .
قال مالك بن الصيف حين بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أُخذ عليهم من الميثاق، وما عُهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم : والله ما عَهِد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم ولا أخذ له علينا ميثاقًا. فأنزل الله تعالى : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } .

وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ عَاهَدُوا لَئِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ لَنُؤْمِنُ بِهِ وَلَنَكُونَنَّ مَعَهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ فَنَقَضُوهَا كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، دَلِيلُهُ قول تَعَالَى:" الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ".


- قَوْلُهُ تَعَالَى:" نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ"
النَّبْذُ: الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ النَّبِيذُ وَالْمَنْبُوذُ .
كقوله (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ )


- قوله ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ )
(قلت ) أي ليس بعضهم فقط الذي طرح العهود بل أن أكثرهم غير مؤمنين .
...
 
عودة
أعلى