R
ramdan
فى مقدمته لكتاب خراب مصر الصادر بعد 28 عاما على احتلال انجلترا لمصر يتساءل المستر ويلفرد بلنت مؤلف كتاب التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر:
" أى دافع أخلاقى يدفعنا إلى حكم المصريين رغم أنوفهم؟ وعلام يمقتوننا ذلك المقت كله إذا كنا حقيقة قد أوليناهم الجميل تلك السنين الطوال، ولا نزال نوليهم إياه؟
لقد قضينا على حرية صحافتهم بعد أن احتللنا بلادهم طويلاً، وأبينا أن نبر بما وعدناهم به من ترقية نظمهم، وبسطنا عليهم سلطان الحكم المطلق، وسلطناً عليهم شرطة سرية جديدة لا تألوهم تجسسا واعتقالاً ونفياً وسجناً.. فإذا ما طالبونا بالجلاء عن بلادهم وفاء بعهودنا، عددنا ذلك «تمرداً» منهم!! "
والواقع، أنه لفهم ما سبق واستيعاب مقدمات ثورة 1919 الوطنية التحررية، لا غنى عن قراءة كتاب خراب مصر، المترجم للعربية تحت عنوان تاريخ المسألة المصرية من 1875 إلى 1910، لأنه بحث دقيق ومنصف يفند ذرائع الاحتلال البريطانى لمصر؛ قام به باحث موضوعى هو تيودور روثستين، المحيط بأسواق المال الأوروبية، والذى اتخذ من انجلترا وطنا له.
وفى تقديمه للكتاب المذكور يورد بلنت فرية: أن انجلترا لم تكن مسئولة عما تورطت مصر فيه من الدين بل هى استنقذتها من الإفلاس فاستنقذتها من الخراب!!
وأنها ما برحت موفقة فى إدارة المالية المصرية، وأن نصيب الفلاح المصرى من الرخاء ليس له فيما مضى مثيل!!
ثم يورد إعلان السير ادورد غراى رئيس الوزراء البريطاني: أن تكفر مصر الحديثة بنعمة انجلترا، فليس ذلك لغلطة ارتكبتها انجلترا، ولكن لقصور ذاكرة الجيل المصرى الحديث!! ولما عرف عن الشعوب من كفر بالنعمة ونكران للجميل! .
وتحت عنوان وعود انجلترا، نقرأ رسالة اللورد جرنفل وزير الخارجية البريطانى الى إدوارد مالت القنصل العام البريطانى بمصر فى 4 نوفمبر سنة 1881، يزعم: أن سياسة حكومة جلالة الملكة بالنسبة لمصر لا ترمى إلى غير سعادة هذه البلاد وتمتعها التام بما نالته من الحرية بمقتضى الفرمانات السلطانية (العثمانية).
ثم نقرأ رسالة السير بوشامب سيمور قائد الأسطول البريطانى الى الخديو توفيق فى 26 يوليو 1882، يزعم: إن حكومة بريطانيا العظمى لا تنوى غزو مصر!! وإن غرضها الوحيد هو أن تحمى سموكم والمصريين من العصاة!!
يقصد تصفية الثورة العرابية الوطنية الديمقراطية!! والمفارقة أن اللورد دوفرين، الذى ردد فرية حرية وسعادة مصر عشية غزوها، صار مفوض بريطانيا فى مصر، المُكَلَف بتنظيم إدارتها بما يوافق سياسة المحتل، ووفق تقريره سار من خلفوه فى الإدارة الاستعمارية البريطانية!.
وأكتفى هنا بثلاث حقائق وثقها الكتاب: الأولى،
سجلها مراسل التايمز البريطانية فى 6 يناير سنة 1876، يقول: إن مصر مثال للرقى عجيب، لقد أدركت من التقدم سبعين عاماً ما لم تدركه أمم كثيرة أخرى فى خمسمائة عام.
وفى عهد إسماعيل بين عامى 1863 و 1875 تم: شق قناة السويس، وحفر 112 ترعة بلغ اجمالى أطوالها 8400 ميل، وزيادة طول السكك الحديدية من 275 ميلاً إلى 1185 ميلاً، ومد ما يزيد على 5000 ميل من خطوط التلغراف، وإقامة 430 جسراً، وإنشاء ميناء الإسكندرية وأحواض السويس و 15 منارة و64 مصنعا للسكر، وتطوير شوارع القاهرة وغيرها من المدن.
واستنفدت هذه الأشغال وحدها بأكثر من 46 مليوناً من الجنيهات، وبفضلها استصلح من الصحراء أكثر من مليون وربع المليون فدان؛ وزاد عدد السكان بنحو 685 ألف نسمة، وتضاعفت التجارة الخارجية، حيث ارتفعت قيمة الواردات بنحو 270%، وزادت قيمة الصادرات بنحو 310 %.
وزاد عدد المدارس الأولية بمصر من 185 مدرسة فى عام 1863 الى 4685 مدرسة فى عام 1875.. إلخ.
والثانية،
أن إسماعيل لو اقتصر على الإصلاحات المذكورة وغيرها لما كان له بد من الوقوع عاجلاً أو آجلاً فى عسر مالى شديد، لأنها تحتاج إلى زمن طويل لتؤتى ثمارها المنشودة.
وأوضح السير صمويل بيكر، الذى قاد حملة مصرية فى عهد إسماعيل لاكتشاف منابع النيل بسطت نفوذ مصر عليها، أن إسماعيل قد أخذ على عاتقه- أن ينجز فى وقت قصير ما يقتضى إنجازه العمل مع الصبر سنين طويلة؛ لكنه تغيير الى الأحسن وأساس لعظمة مصر المستقبل.
فى تقرير مستر كيف، الذى أوفدته بريطانيا لدراسة وضع مصر المالى وقدرتها على سداد ديونها، سجل أن مصر تكابد النفقات التى تدعو إليها العجلة والاعتساف فى اتباع المدنية الغربية.
لكنه اعترف بأن موارد مصر إذا أحسنت إدارتها تكفى لأداء الديون المصرية متى كانت ذات فائدة معقولة.
وأكد السير جورج اليوت، الذى دعاه إسماعيل قبل مستر كيف لفحص المالية المصرية فحصاً دقيقاً، فى عام 1876: إن مصر تستطيع أداء جميع الفوائد وأقساط الاستهلاك التى تحررها من ديونها، ويتبقى لها بعد ذلك فضل سنوى يكفى لسد جميع حاجاتها الضرورية.
والثالثة،
إن تقرير المستر كيف قد سجل أن النفقات كانت باهظة لكنها لم تكن لتؤدى وحدها للأزمة، التى ترجع كلها تقريبا لشروط القروض. فقد حُمِّلت مصر فى آخر عام 1875 بدين ثابت يزيد على 68 مليون جنيه، لم يدخل خزنتها منه إلا أقل من 34 مليون جنيه، ونهب الدائنون ووكلاؤهم نصفه فى صورة سمسرة وخصم.. !!
وقد عملت المصارف الانجليزية والفرنسية على إغراء اسماعيل بعقد قروض فاحشة الربا، آخرها قرض عام 1873، الذى بلغت قيمته الإسمية 32 مليون جنيه، ولم تتلق مصر منه سوى أقل من 21 مليون جنيه.
أضف الى هذا، أنه من الخديو الغافل أخذ مقاولو إنشاء ميناء الاسكندرية نحو 80 % فوق ما يستحقون، ومقاولو مد السكك الحديدية أكثر من أربعة أمثال ما يستحقونه، وكذلك فعل من أقاموا مصانع السكر وغيرهم!!
وكان هذا وغيره أهم أسباب عوز مصر المالى، الذى اتخذ تبريرا لاستمرار التدخل ثم الاحتلال بزعم ضمان حقوق الدائنين!! وذلك بالإضافة إلى حادثة دنشواى التى تضاعفت نهب مصر طوال سنوات الحرب العالمية الأولى بعد فرض الحماية البريطانية فى عام 1914؛ التى عمقت الأسباب المباشرة لثورة 1919.
(نقلا عن د. طه عبدالعليم-الأهرام اليومي- مئوية ثورة 1919 2 فبراير 2019)
" أى دافع أخلاقى يدفعنا إلى حكم المصريين رغم أنوفهم؟ وعلام يمقتوننا ذلك المقت كله إذا كنا حقيقة قد أوليناهم الجميل تلك السنين الطوال، ولا نزال نوليهم إياه؟
لقد قضينا على حرية صحافتهم بعد أن احتللنا بلادهم طويلاً، وأبينا أن نبر بما وعدناهم به من ترقية نظمهم، وبسطنا عليهم سلطان الحكم المطلق، وسلطناً عليهم شرطة سرية جديدة لا تألوهم تجسسا واعتقالاً ونفياً وسجناً.. فإذا ما طالبونا بالجلاء عن بلادهم وفاء بعهودنا، عددنا ذلك «تمرداً» منهم!! "
والواقع، أنه لفهم ما سبق واستيعاب مقدمات ثورة 1919 الوطنية التحررية، لا غنى عن قراءة كتاب خراب مصر، المترجم للعربية تحت عنوان تاريخ المسألة المصرية من 1875 إلى 1910، لأنه بحث دقيق ومنصف يفند ذرائع الاحتلال البريطانى لمصر؛ قام به باحث موضوعى هو تيودور روثستين، المحيط بأسواق المال الأوروبية، والذى اتخذ من انجلترا وطنا له.
وفى تقديمه للكتاب المذكور يورد بلنت فرية: أن انجلترا لم تكن مسئولة عما تورطت مصر فيه من الدين بل هى استنقذتها من الإفلاس فاستنقذتها من الخراب!!
وأنها ما برحت موفقة فى إدارة المالية المصرية، وأن نصيب الفلاح المصرى من الرخاء ليس له فيما مضى مثيل!!
ثم يورد إعلان السير ادورد غراى رئيس الوزراء البريطاني: أن تكفر مصر الحديثة بنعمة انجلترا، فليس ذلك لغلطة ارتكبتها انجلترا، ولكن لقصور ذاكرة الجيل المصرى الحديث!! ولما عرف عن الشعوب من كفر بالنعمة ونكران للجميل! .
وتحت عنوان وعود انجلترا، نقرأ رسالة اللورد جرنفل وزير الخارجية البريطانى الى إدوارد مالت القنصل العام البريطانى بمصر فى 4 نوفمبر سنة 1881، يزعم: أن سياسة حكومة جلالة الملكة بالنسبة لمصر لا ترمى إلى غير سعادة هذه البلاد وتمتعها التام بما نالته من الحرية بمقتضى الفرمانات السلطانية (العثمانية).
ثم نقرأ رسالة السير بوشامب سيمور قائد الأسطول البريطانى الى الخديو توفيق فى 26 يوليو 1882، يزعم: إن حكومة بريطانيا العظمى لا تنوى غزو مصر!! وإن غرضها الوحيد هو أن تحمى سموكم والمصريين من العصاة!!
يقصد تصفية الثورة العرابية الوطنية الديمقراطية!! والمفارقة أن اللورد دوفرين، الذى ردد فرية حرية وسعادة مصر عشية غزوها، صار مفوض بريطانيا فى مصر، المُكَلَف بتنظيم إدارتها بما يوافق سياسة المحتل، ووفق تقريره سار من خلفوه فى الإدارة الاستعمارية البريطانية!.
وأكتفى هنا بثلاث حقائق وثقها الكتاب: الأولى،
سجلها مراسل التايمز البريطانية فى 6 يناير سنة 1876، يقول: إن مصر مثال للرقى عجيب، لقد أدركت من التقدم سبعين عاماً ما لم تدركه أمم كثيرة أخرى فى خمسمائة عام.
وفى عهد إسماعيل بين عامى 1863 و 1875 تم: شق قناة السويس، وحفر 112 ترعة بلغ اجمالى أطوالها 8400 ميل، وزيادة طول السكك الحديدية من 275 ميلاً إلى 1185 ميلاً، ومد ما يزيد على 5000 ميل من خطوط التلغراف، وإقامة 430 جسراً، وإنشاء ميناء الإسكندرية وأحواض السويس و 15 منارة و64 مصنعا للسكر، وتطوير شوارع القاهرة وغيرها من المدن.
واستنفدت هذه الأشغال وحدها بأكثر من 46 مليوناً من الجنيهات، وبفضلها استصلح من الصحراء أكثر من مليون وربع المليون فدان؛ وزاد عدد السكان بنحو 685 ألف نسمة، وتضاعفت التجارة الخارجية، حيث ارتفعت قيمة الواردات بنحو 270%، وزادت قيمة الصادرات بنحو 310 %.
وزاد عدد المدارس الأولية بمصر من 185 مدرسة فى عام 1863 الى 4685 مدرسة فى عام 1875.. إلخ.
والثانية،
أن إسماعيل لو اقتصر على الإصلاحات المذكورة وغيرها لما كان له بد من الوقوع عاجلاً أو آجلاً فى عسر مالى شديد، لأنها تحتاج إلى زمن طويل لتؤتى ثمارها المنشودة.
وأوضح السير صمويل بيكر، الذى قاد حملة مصرية فى عهد إسماعيل لاكتشاف منابع النيل بسطت نفوذ مصر عليها، أن إسماعيل قد أخذ على عاتقه- أن ينجز فى وقت قصير ما يقتضى إنجازه العمل مع الصبر سنين طويلة؛ لكنه تغيير الى الأحسن وأساس لعظمة مصر المستقبل.
فى تقرير مستر كيف، الذى أوفدته بريطانيا لدراسة وضع مصر المالى وقدرتها على سداد ديونها، سجل أن مصر تكابد النفقات التى تدعو إليها العجلة والاعتساف فى اتباع المدنية الغربية.
لكنه اعترف بأن موارد مصر إذا أحسنت إدارتها تكفى لأداء الديون المصرية متى كانت ذات فائدة معقولة.
وأكد السير جورج اليوت، الذى دعاه إسماعيل قبل مستر كيف لفحص المالية المصرية فحصاً دقيقاً، فى عام 1876: إن مصر تستطيع أداء جميع الفوائد وأقساط الاستهلاك التى تحررها من ديونها، ويتبقى لها بعد ذلك فضل سنوى يكفى لسد جميع حاجاتها الضرورية.
والثالثة،
إن تقرير المستر كيف قد سجل أن النفقات كانت باهظة لكنها لم تكن لتؤدى وحدها للأزمة، التى ترجع كلها تقريبا لشروط القروض. فقد حُمِّلت مصر فى آخر عام 1875 بدين ثابت يزيد على 68 مليون جنيه، لم يدخل خزنتها منه إلا أقل من 34 مليون جنيه، ونهب الدائنون ووكلاؤهم نصفه فى صورة سمسرة وخصم.. !!
وقد عملت المصارف الانجليزية والفرنسية على إغراء اسماعيل بعقد قروض فاحشة الربا، آخرها قرض عام 1873، الذى بلغت قيمته الإسمية 32 مليون جنيه، ولم تتلق مصر منه سوى أقل من 21 مليون جنيه.
أضف الى هذا، أنه من الخديو الغافل أخذ مقاولو إنشاء ميناء الاسكندرية نحو 80 % فوق ما يستحقون، ومقاولو مد السكك الحديدية أكثر من أربعة أمثال ما يستحقونه، وكذلك فعل من أقاموا مصانع السكر وغيرهم!!
وكان هذا وغيره أهم أسباب عوز مصر المالى، الذى اتخذ تبريرا لاستمرار التدخل ثم الاحتلال بزعم ضمان حقوق الدائنين!! وذلك بالإضافة إلى حادثة دنشواى التى تضاعفت نهب مصر طوال سنوات الحرب العالمية الأولى بعد فرض الحماية البريطانية فى عام 1914؛ التى عمقت الأسباب المباشرة لثورة 1919.
(نقلا عن د. طه عبدالعليم-الأهرام اليومي- مئوية ثورة 1919 2 فبراير 2019)