A
Admin
الصيام لي وأنا أجزي به
مشاهدة المرفق 263عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ المِسْكِ.
يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي ، الصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
أخرجه البخاري في صحيحه
شرح قوله (الصِّيَامُ جُنَّةٌ )
قال الحافظ ابن حجر : زَادَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ في سننه (جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ) ،
ولِلنَّسَائِيّ من حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلُهُ ،ولَهُ من حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ( الصِّيَامُ جُنَّةٌ من النار كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ )
و لِأَحْمَد : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ)
ولأحمد أيضا من حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ : (الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا) زَادَ الدَّارِمِيُّ في سننه" بِالْغِيبَةِ"
و "الْجُنَّةُ" بِضَمِّ الْجِيمِ: الْوِقَايَةُ وَالسَّتْرُ ،وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُتَعَلَّقُ هَذَا السَّتْرِ وَأَنَّهُ مِنَ النَّارِ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ،
وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ مَعْنَى كَوْنِهِ "جُنَّةً " أَيْ يَقِي صَاحِبَهُ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ ،
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : "جُنَّةٌ" أَيْ سُتْرَةٌ يَعْنِي بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدُهُ وَيَنْقُصُ ثَوَابَهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ (فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ ) إِلَخْ ،
وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ ،بِحَسَبِ فَائِدَتِهِ وَهُوَ إِضْعَافُ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ ،
وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ، بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّوَابِ وَتَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ ،
وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ: مَعْنَاهُ سُتْرَةٌ مِنَ الْآثَامِ أَوِ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَبِالْأَخِيرِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ ،
وقال ابن الْعَرَبِيّ :إِنَّمَا كَانَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِالشَّهَوَاتِ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنَ النار في الْآخِرَةِ .
قلت : قال الله تعالى في المنافقين " اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" أي جعلوا أيمانهم وحلفهم سترا لنفاقهم .
أثر الآثام في الصيام :
قال ابن حجر : وفي زِيَادَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغِيبَةَ تَضُرُّ بِالصِّيَامِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ،
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَتُوجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْم ،
وأفرط ابن حَزْمٍ فَقَالَ : يُبْطِلُهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ مُتَعَمِّدٍ لَهَا ذَاكِرٍ لِصَوْمِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ "فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ "،
وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) ،
وَأمّا جُمْهُور العلماء ، و إِنْ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ.
ترجيح الصيام على العبادات الأخرى
وَأَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ الصِّيَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَالَ حَسْبُكَ بِكَوْنِ الصِّيَامِ جُنَّةً مِنَ النَّارِ فَضْلًا.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله مرني بِأَمْر آخُذْهُ عَنْكَ .
قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ- وَفِي رِوَايَةٍ: لَا عَدْلَ لَهُ- .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، تَرْجِيحُ الصَّلَاةِ.
شرح قوله (فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ)
معنى قَوْلُهُ (فَلَا يَرْفُثْ ) أَيِ الصَّائِمُ . وَالْمُرَادُ بِالرَّفَثِ هُنَا : الْكَلَامُ الْفَاحِشُ. وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَعَلَى ذِكْرِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا .
ومعنى قَوْلُهُ (وَلَا يَجْهَلْ ) أَيْ لَا يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ كَالصِّيَاحِ وَالسَّفَهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عن أَبِي صَالِحٍ (فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يُجَادِلْ)
قال الْقُرْطُبِيُّ :لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ غَيْرَ الصَّوْمِ يُبَاحُ فِيهِ مَا ذُكِرَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ.
قَوْلُهُ (وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ ) وَفِي رِوَايَةِ صَالِحٍ (فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ) وَلِأَبِي قُرَّةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ (وَإِنْ شَتَمَهُ إِنْسَانٌ فَلَا يُكَلِّمْهُ)
وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ من طَرِيق سُهَيْل (فَإِن سابه أحد او ماراه )أَيْ جَادَلَهُ
وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فاجلس)
وَاتفقَ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ( إِنِّي صَائِمٌ ) فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ .
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ظَاهِرُ قوله (قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ ) بِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالصَّائِمُ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْجَوَابُ خُصُوصًا الْمُقَاتَلَةَ ؟
والْجَوَابُ عَنْ ذَلِك : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُفَاعَلَة : التَّهَيُّؤُ لَهَا ، أَيْ إِنْ تَهَيَّأَ أَحَدٌ لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ ،
فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ .
فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ ( إِنِّي صَائِمٌ )
وقيل أن قَوْلُهُ (قَاتَلَهُ) يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَتْلِ: لَعْنٌ، يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الشَّتْمِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ (فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ) هَلْ يُخَاطِبُ بِهَا الَّذِي يُكَلِّمُهُ بِذَلِكَ ؟ أَوْ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ ؟
وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ ،
وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي الْأَذْكَارِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ :كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى وَلَوْ جَمَعَهُمَا لَكَانَ حَسَنًا .
أثر الصيام في رائحة فم الصائم :
قَوْلُهُ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ) أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا قَوْلُهُ (لَخُلُوفُ)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ فَمِ الصَّائِمِ بِسَبَبِ الصِّيَامِ
قَوْلُهُ (أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ) اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْخُلُوفِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ اسْتِطَابَةِ الرَّوَائِحِ إِذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ وَمَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَوْجُهٍ :
قَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ أَيْ يُقَرَّبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إِلَيْكُمْ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقِيلَ :الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ فِي حق الْمَلَائِكَة وَإِنَّهُم يستطيبون ريح الخلوف أَكثر مِمَّا تستطيبون رِيحَ الْمِسْكِ
وَقِيلَ :الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ الْخُلُوفِ وَالْمِسْكِ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عِنْدَكُمْ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ.
وَقِيلَ : الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْزِيهِ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُومُ وَرِيحُ جُرْحِهِ تَفُوحُ مِسْكًا،
نَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ لِلطَّاعَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،رِيحًا تَفُوحُ ، قَالَ :فَرَائِحَةُ الصِّيَامِ فِيهَا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ كَالْمِسْكِ .
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ (أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
وَقَدْ ترْجم ابن حِبَّانَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ ثُمَّ قَالَ: ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا .
وَذهب ابن الصَّلَاحِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ، وقال الْخَطَّابِيُّ طِيبُهُ عِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ بِهِ وثناؤه عَلَيْهِ
وَقَالَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ: أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ .
قَوْلُهُ (وَشَهْوَتَهُ)
وَالْمُرَادُ بِالشَّهْوَةِ فِي الْحَدِيثِ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ لِعَطْفِهَا عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِضْ فِي خَاطِرِهِ شَهْوَةُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ طُولَ نَهَارِهِ إِلَى أَنْ أَفْطَرَ لَيْسَ هُوَ فِي الْفَضْلِ كَمَنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ فَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي تَرْكِهِ .
معنى " الصيام لي وأنا أجزي به "
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى( الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَهُ وَهُوَ الَّذِي يُجزئ بِهَا، عَلَى أَقْوَالٍ :
1- أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَقَعُ فِيهِ الرِّيَاءُ كَمَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِ ،حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ .
وعن أَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ :قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي يُجزئ بِهَا فَنَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ الصّيام لِأَنَّهُ لَيْسَ يظْهر من ابن آدَمَ بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ ويؤيد هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ" عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا ،
قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَرَكَاتِ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَن النَّاس هَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : لَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ وَالصَّوْمُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَأَضَافَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي وَقَالَ ابن الْجَوْزِيِّ :جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ تَظْهَرُ بِفِعْلِهَا وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مَا يَظْهَرُ مِنْ شَوْبٍ بِخِلَافِ الصَّوْمِ .
2- لما كان الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَلَمَّا تَقَرَّبَ الصَّائِمُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ ،أَضَافَهُ إِلَيْهِ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُنَاسِبَةٌ لِأَحْوَالِهِمْ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ الصَّائِمَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِأَمْرٍ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي.
وقيل: أَنَّ الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ .
3- لأَنَّ الصوم خَالِصٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ .
4- سَبَبُ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الصِّيَامَ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
5- أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ تُوَفَّى مِنْهَا مَظَالِمُ الْعِبَادِ إِلَّا الصِّيَامَ ،
رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ عَن ابن عُيَيْنَةَ قَالَ : إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ اللَّهُ عَبْدَهُ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ فَيَتَحَمَّلُ اللَّهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ.
روى أَحْمَدُ في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ "كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ " ،وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ .
و الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ( وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) أَنِّي أَنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ
قال الْقُرْطُبِيُّ :مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ كَشَفَتْ مَقَادِيرَ ثَوَابِهَا لِلنَّاسِ وَأَنَّهَا تُضَاعَفُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَيَشْهَدُ لِهَذَا السِّيَاقِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَعْنِي رِوَايَةَ الْمُوَطَّأِ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ حَيْثُ قَالَ :
(كل عمل بن آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ )
أَيْ أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاءً كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمِقْدَارِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ انْتَهَى،
وَالصَّابِرُونَ أي الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ .
التعديل الأخير: