اسمه ونسبه ومولده رحمه الله: هو: عبدالله بن المبارك بن واضح، أبو عبدالرحمن، الحنظلي مولاهم، التركي، ثم المروزي، الحافظ، الغازي، أحد الأعلام، الإمام، شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، كان أبوه تركيًّا مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان، فكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم، وكانت أمه خوارزمية، ولد في إقليم خراسان في مرو [1] سنة: (118هـ) [2].
تتلمذه وطلبه للعلم رحمه الله: حرص الإمام ابن المبارك على العلم، فبدأ في طلبه وهو ابن عشرين سنة، ولا ندري ما سبب تأخُّره في ذلك، فلعل ذلك راجع إلى حال أسرته، ومع ذلك فقد حصَّل علمًا كثيرًا، وليست العبرة بالتبكير في طلب العلم ولا طول السنين فيه، ولكن بحصول البركة والتوفيق، فلما وضع ابن المبارك قدمه على طريق العلم اجتهدًا اجتهادًا عظيمًا في التحصيل حتى فاق غيره، قال أحمد بن حنبل: "لم يكن في زمانه أطلب للعلم منه، جمع أمرًا عظيمًا ما كان أحد أقل سقطًا منه، كان رجلًا صاحب حديث حافظ"؛ قال ابن المبارك عن نفسه: "حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف شيخ".
وقد كان أقدم شيخ لقيه: هو الربيع بن أنس الخراساني، تحيل ودخل إليه إلى السجن، فسمع منه نحوًا من أربعين حديثًا، ثم ارتحل في سنة (141هـ)، وأخذ عن بقايا التابعين، وأكثر من الترحال والتطواف، فقد ارتحل إلى الحرمين، والشام، ومصر، والعراق، والجزيرة، وبعض الأماكن في خراسان، وكان من شيوخه الذين روى عنهم: سليمان التيمي، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبان بن تغلب، وغيرهم [3].
علمُه رحمه الله: كان الإمام ابن المبارك من كبار العلماء الذين عرف أهل العلم رسوخهم فيه، وشهدوا لهم بسمو الرتبة في تحصيله وتعليمه والعمل به، وأثنوا عليه بهذه الخصلة العظيمة التي هي واحدة من خصاله الكثيرة؛ قال أبو عمر بن عبدالبر: "أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله"[4]، وقال ابن معين: "كان عبدالله رحمه الله كيِّسًا مستثبتًا ثقة، وكان عالِمًا، صحيح الحديث، وكانت كتبه التي يحدث بها عشرين ألفًا أو واحدًا وعشرين ألفًا"[5].
وقال محمد بن عبدالوهاب الفراء: "ما أخرجت خراسان مثل هؤلاء الثلاثة: ابن المبارك، والنضر بن شميل، ويحيى بن يحيى"[6].
وقال شعيب بن حرب: "ما لقي ابن المبارك رجلًا إلا وابن المبارك أفضل منه"[7]، وقال أبو أسامة: "ابن المبارك في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الناس"[8]، وقال أبو إسحاق الفزاري: "ابن المبارك إمام المسلمين أجمعين"[9]، ولَمَّا مات ابن المبارك قال هارون أمير المؤمنين: "مات سيد العلماء"[10].
لقد كان ابن المبارك يرى أن العلم أعظم المكرمات التي لا يحتاج معها إلى مكرمة سواه، فقال: "عجبت لمن لم يطلب العلم، كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة؟!"[11].
وكان رحمه الله شغوفًا بالقراءة، محبًّا للكتب، يرى في الجلوس معها أنسه وراحته، ويجد في البقاء بينها نجاة من مجالس الغيبة ومقاعد ضياع الأوقات، قال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليتَ لِم لا تجلس معنا؟ قال: "أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس؟!"[12].
وكان رحمه الله لا يقرأ العلم ولا يحفظه ليبزَّ به غيره، ويطلب به عرضًا من الدنيا، بل كان يطلبه للعمل، ولذلك أُثر عنه إقباله على العبادة والعمل بما تعلم، قال نعيم بن حماد: "ما رأيت أعقل من ابن المبارك، ولا أكثر اجتهادًا في العبادة"[13]، ومن عمله بالعلم أنه رُئي بمكة أتى زمزم، فاستقى شربة، ثم استقبل القبلة، فقال: "اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شُرب له)، وهذا أشربه لعطش القيامة، ثم شربه"[14]، وكانت دعوته رحمه الله مستجابة، قال الحسن بن عيسى: "كان مجاب الدعوة"[15]، ومن أدلة ذلك: ما جاء عن وهب أنه قال: مر ابن المبارك برجل أعمى، فقال له: "أسألك أن تدعو لي أن يرد الله عليَّ بصري، فدعا الله، فرد عليه بصره وأنا أنظر"[16]، فلعله سينال ما دعا به رحمه الله، ومن أمثلة عمله بعلمه: ما قاله الحسن بن عرفة قال: قال لي ابن المبارك: "استعرت قلمًا بأرض الشام، فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو، نظرت، فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه"[17].
وهذه غاية سامية في الأمانة! وكان غفر الله له حسن التعليم، فقد عطس رجل عنده، فقال له ابن المبارك: "أيش يقول الرجل إذا عطس؟ قال: الحمد لله، فقال له: يرحمك الله"[18].
ومع هذه المكانة العلمية السامقة إلا أنه كان متواضعًا لأهل العلم من أقرانه وغيرهم، حسن الأدب معهم، قال يحيى بن يحيى الأندلسي: "كنا في مجلس مالك، فاستُؤذن لابن المبارك فأذن، فرأينا مالكًا تزحزح له في مجلسه، ثم أقعده بلصقه ولم أره تزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك فربما مر بشيء، فيسأله مالك: ما عندكم في هذا؟ فكان عبدالله يجيبه بالخفاء، ثم قام فخرج فأعجب مالك بأدبه، ثم قال لنا: هذا بن المبارك فقيه خراسان"[19].
وكان محبوبًا بين الناس لعلمه وعمله به، معروفًا بينهم إذا قدم مكانًا احتفل به أهله، فقد قدم الرشيد الرقة، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم، قالت: هذا والله المُلك، لا مُلك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان"[20].
من أقواله رحمه الله: تناقل أهل السير أقوالًا كثيرة لابن المبارك، تشع منها أنوار الحكمة والهداية، فمن أقواله في العلم وأهله: قيل له: إلى متى تكتب العلم؟ قال: "لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد"[21].
جودُه رحمه الله: كان الجود والكرم من أظهر خصال الخير في ابن المبارك، حتى صدق فيه قول الشاعر:
وقد كان رحمه الله تاجرًا غنيًّا شاكرًا رأس ماله نحو الأربعمائة ألف [23].
عمل في التجارة لأسباب صالحة تتعلق به وبمن يحب؛ فقد "قال علي بن الفضيل: سمعت أبي يقول لابن المبارك: "أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟! قال: "يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي"[24]. وكان على رأس من يحب: العلماءُ وطلبةُ العلم؛ فقد كان يكرمهم فينفق عليهم نفقات كثيرة، ويحسن صِلاتهم، ويتفقد أحوالهم؛ حتى يعينهم على الاستمرار في التعلم والتعليم، فقد قال للفضيل بن عياض: "لولا أنت وأصحابك ما اتجرت، قال: وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم"[25].
وقال الحسن بن حماد: دخل أبو أسامة على ابن المبارك، فوجد في وجهه عبد الله أثر الضر، فلما خرج، بعث إليه أربعة آلاف درهم، وكتب إليه:
وقال المسيب بن واضح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سدَّ بها فتنة القوم عنك"[27].
وقد "عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده، قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم، احتاجوا، فإن تركناهم، ضاع علمهم، وإن أعناهم، بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم"[28].
ومن جهات جوده التي عرف بها: إكرامه لإخوانه وجيرانه في نفقات الحج، فكان رحمه الله إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي، وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا، دعا بالصندوق، ففتحه، ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه"[29].
وفي مرة من المرات "خرج إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، فكشف عن أمرها وفحص، حتى سألها، فقالت: أنا وأختي ها هنا، ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وقد حلت لنا الميتة، وكان أبونا له مال عظيم، فظُلم وأخذ ماله وقُتل، فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ فقال: ألف دينار، فقال: عد منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع"[30].
وهذا هو الفقه، فما أجمل المال إذا انضم إليه الفقه، ومعرفة مقاصد الشريعة وغاياتها، والعلم بكيفية الموازنة بين شعائرها!
وقال إسماعيل بن عياش: "ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة، فكان يطعمهم الخبيص [31]، وهو الدهرَ صائمٌ"[32].
ومن جهات جوده: قضاء ديون المدينين، وما أعظمه من عمل يفرج به كرب مكروب، وينفس به هم مهموم، فقد "كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان، فكان شابًّا يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبدالله مرةً فلم يره، فخرج في النفير مستعجلًا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقيل: محبوس على عشرة آلاف درهم.
فاستدل على الغريم، ووزن له عشرة آلاف، وحلَّفه ألا يخبر أحدًا ما عاش، فأخرج الرجل، وسرى ابن المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال لي: يا فتى أين كنت؟ لم أرك!
قال: يا أبا عبدالرحمن، كنت محبوسًا بدَين، قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني، ولم أدر، قال: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبدالله" [33].
وهذا فيه من دلائل الإخلاص، وسمو المروءة ما فيه، بل بلغ به الكرم في هذه الجهة ما تضمنته هذه القصة العجيبة: "جاء رجل إلى ابن المبارك، فسأله أن يقضي دينًا عليه، فكتب له إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب، قال له الوكيل: كم الدين الذي سألته قضاءه؟ قال: سبعمائة درهم، وإذا عبدالله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل، وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبدالله: إن كانت الغلات قد فنيت، فإن العمر أيضًا قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي" [34].
كأنه أراد ألا يكسر قلب ذلك المدين، ولا يبعد عنه الفرح بهذا المبلغ الكبير.
جهادُه رحمه الله: الجهاد باب عظيم من أبواب الخير التي حث عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وامتثله نبي الله وصحابته الكرام والصالحون من بعدهم؛ فلذلك على منوالهم سار الإمام ابن المبارك رحمه الله، وبقي على هذه الشعيرة إلى آخر أيام حياته، فقد مات بمدينة هيت [35]، وهو عائد من غزوة من الغزوات، وقد اشتهر رحمه الله بالمبارزة والإثخان في العدو بذلك.
شِعره رحمه الله: حتى الشعر كان لابن المبارك مشاركة فيه، ولكن شعره كان دائرًا في مجالات الخير، فصار بذلك من حسن الكلام، وقد ذكر الذين ترجموا له أبياتًا ومقطوعات وقصائدَ [36]، فمن ذلك قوله رحمه الله:
تصانيفه رحمه الله: أدرك ابن المبارك رحمه الله أن العلم يبقى بالتصنيف، ويخلد ذكر المرء بالتأليف؛ فلذلك صنف مؤلفات عديدة، فمنها: 1) الأربعون، وهو أول من صنف في الأربعينات [40]. 2) الاستئذان [41]. 3) البر والصلة [42]. 4) التاريخ [43]. 5) التفسير [44]. 6) الجهاد[45]، وهو أول من صنف في الجهاد. 7) ديوان شعر [46]. 8) الزهد والرقائق [47]، وهو أول من صنف في الرقائق. 9) السنن في الفقه [48]. 10) المسند [49].
جمعُه لخصال الخير التي تفرقت في غيره، رحمه الله: وبعد استعراض بعض خصال الخير في الإمام ابن المبارك، يتبيَّن لنا أن الرجل قد جمع خلالًا حميدة قل أن تجتمع في غيره؛ فلذلك ذكر بعض أهل العلم السابقين بعض العبارات الدالة على هذا الأمر: قال إسماعيل بن عياش: "ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير، إلا وقد جعلها في عبدالله بن المبارك"[50].
وقال الحسن بن عيسى بن ماسرجس مولى ابن المبارك: "اجتمع جماعة مثل: الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين، فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه" [51].
وقال ابن حبان: "وكان ابن المبارك رحمه الله فيه خصال مجتمعة لم يجتمع في أحد من أهل العلم في زمانه في الدنيا كلها، كان فقيهًا ورعًا عالِمًا بالاختلاف، حافظًا يعرف السنن، رحالًا في جمع العلم، شجاعًا ينازل الأقران، ويكابد الأبطال، أديبًا يقول الشعر فيجيد، سخيًّا بما ملك من الدنيا"[52].
وقال العباس بن مصعب: "جمع عبدالله الحديث، والفقه، والعربية، وأيام الناس، والشجاعة، والسخاء، والتجارة، والمحبة عند الفرق" [53].
"وقال الحاكم: هو إمام عصره في الآفاق، وأولاهم بذلك علمًا وزهدًا وشجاعة وسخاءً"[54].
وتمنَّى بعض العلماء أن يعيش بعض خصاله الحسنة مدة قليلة من الزمن، ولكنه ما استطاع؛ قال سفيان: "إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سَنةً مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام"[55].
وبهذا الخير المجتمع قرت به عيون الناظرين إليه، والمجالسين له، قال عبدالرحمن بن زيد الجهضمي: "قال الأوزاعي: رأيتَ ابن المبارك؟ قلت: لا، قال: لو رأيته لقرَّت عينك" [56].
وشخص بهذا الخير العميم، والجمع الكريم لهذه الخصال الحسنة هو نور لآفاقه، وأنسٌ لأهله ورفاقه، فصدق من قال فيه:
القصة ذكرها ابن كثير بلا اسناد في البداية والنهاية
أراد عبد الله بن المبارك رحمه الله الحج ذات عام، وذهب ليودع إخوانه وأصحابه، فألتقى بامرأة غيرت له خط سيره تمامًا، إذ رآها تنحني على القمامة وتبحث فيها حتى وجدت دجاجة ميتة، فأخذتها وانطلقت لتطهوها لأبناءها، فتعجب من ذلك ابن المبارك، وناداها لينهاها عن أكل الميتة، ذاكرًا قوله تعالى: " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ"، فقالت له: يا عبد الله – اترك الخلق للخالق! فلله تعالى في خلقه شئون، فقال لها ابن المبارك: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك.. فقالت المرأة له: أما وقد أقسمت عليّ بالله.. فلأخبرنَّك: إن الله قد أحل لنا الميتة، وأنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات، ولا يوجد من يكفلنا، وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوبًا رحيمة، فخرجت ألتمس عشاء لبناتي اللاتي أحرق لهيب الجوع أكبادهن فرزقني الله هذه الميتة.. أفمجادلني أنت فيها؟ وهنا بكى عبدالله ابن المبارك، وقال لها: خذي هذه الأمانة وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج وعاد إلى بيته ولازمه طوال فترة الحج.
وعاد ابن المبارك لبيته، ولم يسافر إلى الحج، لكنه فوجيء بالحجاج بعدما عادوا يشكروه على ما قدمه لهم من علم ونفقة في الحج، فتعجب ولكنه لم يخبرهم بسره،
ويقول مصطفى راشد في كتابه "تصحيحًا للفقه القديم" أنه رأى في المنام رجلًا يشرق النور من وجهه يقول له: السلام عليك يا عبد الله ألأست تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة، جزاك الله عن أمتي خيرًا،...، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى..وسترك كما سترت اليتامى، إن الله سبحانه وتعالى خلق ملكًا على صورتك كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج وإن الله تعالى كتب لكل حاجة ثواب حجة وكتب لك ثواب سبعين حجة.
وفاته رحمه الله: وبعد حياة حميدة قضاها في كل خير وهبه الله إياه، وأعانه عليه يسلم أبو عبدالرحمن نفسه لباريها، ويغادر الدنيا، ويترك الله له في الآخرين لسان صدق يلهج بالثناء، ويذكره بالدعاء.
فمات رحمه الله في "هيت" (على الفرات) منصرفًا من غزو الروم، في رمضان سنة: (181هـ) وله ثلاث وستون سنة.
ولما احتضر ابن المبارك، جعل رجل يلقِّنه، قل: لا إله إلا الله، فأكثر عليه، فقال له: "لست تحسن، وأخاف أن تؤذي مسلمًا بعدي، إذا لقنتني فقلت: لا إله إلا الله، ثم لم أحدث كلامًا بعدها، فدعني، فإذا أحدثت كلامًا، فلقني حتى تكون آخر كلامي" [58].
وهذه النصيحة الغالية هي آخر ما نصح بها أمة محمد، فما أعظمها من نصيحة في مثل تلك الحال! فرحمه الله رحمة واسعة.
دروس من حياة عبدالله بن المبارك: 1- نعمَ المال الصالح للعبد الصالح، وما أجمل العلم حينما يجتمع معه مال حلال يكف به صاحبه وجهه عن الناس، ويستعين به على طاعة الله تعالى.
2- لا خير في العلم إذا لم يكن به عمل.
3- تفقُّد أهل العلم وقضاء حوائجهم من خير الأعمال.
4- الإخلاص في الأعمال الصالحة هو الذي يرفع قدر صاحبها عند الله وعند الناس.
5- ليكن للمؤمن مشاركة صالحة في مجالات متعددة في الخير ما استطاع لذلك، ولا يقتصر على جانب من الجوانب وهو يقدر على تجاوزه إلى غيره من ميادين الفضائل.
المصادر : [1] خراسان الكبرى: منطقة جغرافية واسعة، قال ياقوت: "بلاد واسعة، أول حدودها مما يلي العراق أزاذوار قصبة جوين وبيهق، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان وغزنة وسجستان وكرمان، وليس ذلك منها إنما هو أطراف حدودها، وتشتمل على أمهات من البلاد؛ منها: نيسابور وهراة ومرو - وهي كانت قصبتها - وبلخ وطالقان ونسا وأبيورد وسرخس"؛ معجم البلدان، لياقوت الحموي (2/ 350)، وهي الآن تشمل شمال غرب أفغانستان، وأجزاءً من جنوب تركمانستان، إضافة إلى مقاطعة خراسان الحالية في إيران، وأما (مرو) فهي الآن عاصمة منطقة ماري في تركمانستان - وماري تحريف لمرو - وتقع مرو على ضفاف نهر المرغاب، وتعد المدينة حاليًّا وفقًا لليونسكو من مواقع التراث العالمي، ويقال: إنها كانت أكبر مدن العالم في القرن الثاني عشر الميلادي؛ ينظر: موسوعة ويكيبيديا على الشبكة العنكبوتية. [2] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 378)، البداية والنهاية، لابن كثير(13/ 610)، تهذيب التهذيب، لابن حجر (20/ 351). [3] تهذيب التهذيب، لابن حجر (5/ 384)، تهذيب الكمال، للمزي (16/6)، سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 379) (8/ 381) (8/ 397). [4] البداية والنهاية، لابن كثير (13/ 613). [5] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 391). [6] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 383). [7] المرجع السابق (8/ 384). [8] المرجع السابق. [9] المرجع السابق (8/ 390). [10] المرجع السابق. [11] المرجع السابق (8/ 398). [12] المرجع السابق. [13] المرجع السابق (8/ 405). [14] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 393). [15] تهذيب التهذيب، لابن حجر (20/ 355). [16] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 395). [17] المرجع السابق. [18] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 383). [19] تهذيب التهذيب، لابن حجر (20/ 355). [20] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 384)، البداية والنهاية، لابن كثير (13/ 611). [21] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 407). [22] الأبيات لأبي تمام؛ الحماسة المغربية (ص: 25). [23] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 409). [24] المرجع السابق (8/ 387). [25] تهذيب التهذيب، لابن حجر (20/ 355). [26] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 409). [27] المرجع السابق (8/ 410). [28] المرجع السابق (8/ 387). [29] المرجع السابق (8/ 385). [30] البداية والنهاية، لابن كثير (13/ 611). [31] الخبيص: الحلواء المخبوصة من التمر والسمن. [32] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 384). [33] المرجع السابق (8/ 386). [34] المرجع السابق. [35] تهذيب التهذيب، لابن حجر (20/ 355). [36] ثم جمعت مؤخرًا في ديوان سيأتي ذكره في مصنفاته. [37] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 413). [38] المرجع السابق (8/ 416). [39] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 416). [40] الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المصنفة، لمحمد بن جعفر الكتاني (ص: 102). [41] الرسالة المستطرفة (ص: 45). [42] الفهرست، لابن النديم (ص: 319). [43] معجم المؤلفين، لكحالة (6/ 106). [44] الفهرست (ص: 319). [45] حققه وقدم له وعلق عليه د. نزيه حماد، طبع بالدار التونسية بتونس سنة 1972م، ثم أعيد طبعه بدار المطبوعات الحديثة بجدة بدون تاريخ. [46] طبعته: دار اليقين للنشر والتوزيع، مصر المنصورة؛ تحقيق: سعد كريم الفقي. [47] طبعته: دار الكتب العلمية – بيروت؛ تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. [48] الفهرست، لابن النديم (ص: 319). [49] مطبوع باسم: مسند الإمام عبدالله بن المبارك، ط: مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة: الأولى ، 1407هـ؛ تحقيق صبحي البدري السامرائي. [50] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 384). [51] المرجع السابق (8/ 397). [52] الثقات، لابن حبان (7/ 7). [53] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 381). [54] تهذيب التهذيب، لابن حجر (20/ 355). [55] تهذيب التهذيب، لابن حجر (20/ 353). [56] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 384). [57] المرجع السابق (8/ 391). [58] سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/ 418)، البداية والنهاية، لابن كثير (13/ 613)، تهذيب التهذيب، لابن حجر (20/ 355).