ما الجديد

المواساة فى الإسلام

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع yasma
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

المواساة فى الاسلام الأخلاق من أجلها أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وفرضت الفرائض وسنت السنن. ومن أسمى الأخلاق وأجلها خلق المواساة، فهو نسيم الحياة، وضياء...

yasma

Moderator
إنضم
Nov 16, 2021
المشاركات
3K
مستوى التفاعل
4
النقاط
38

images (6) (30).webp

المواساة فى الاسلام


الأخلاق من أجلها أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وفرضت الفرائض وسنت السنن.


ومن أسمى الأخلاق وأجلها خلق المواساة، فهو نسيم الحياة، وضياء الجباه، وقربة من الله!!


المواساة أصل عظيم من أصول الإسلام، وخلق كريم من أخلاق القرآن، مبدأ أصيل من مبادئ الدين، وينبوع متجدد من ينابيع الإيمان، المواساة وقود الحياة وروح الأمة، فإذا صحت الروح عاشت الأمة قوية عزيزة مرهوبة الجانب، وإذا فسدت الروح تهاوت الأمة وخارت قواها وأصبحت مطمعًا للطامعين، وهدفًا للأعداء والمتجبرين المتسلطين!!



وإنّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ
space.gif

فإن همُو ذهبتْ أخلاقُهمْ ذهبُوا
space.gif

وليسَ بعامرٍ بنيانُ قومٍ
space.gif

إذا أخلاقُهم كانتْ خرابا
space.gif



والإنسان الذي هو لبنة في بناء الأمة ما هي قيمته المادية إذا كان بعيدا من الروح المتقدة، والقيم المُعبدة، مجردًا من الفضائل والقيم والمثل والأخلاق؟ إنها هي التي تجعل للأمة قيمة دونها كل ذهب الأرض؟!!

صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مرجعُهُ *** فقوِّمِ النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ


المواساة تباذل لا تخاذل، تقارب لا تباعد، ود وحب لا كُره وبُغض، تجانس وتعاون لا تشتت وتغابن،في زمن كثرت فيه الشدائد، وادلَّهمت فيه الخطوب، وانتشرت فيه النوازل، المجتمعات في حاجة ماسة إلى المواساة، والأُسر في حاجة ماسة إلى التماسك، والبيوت في حاجة إلى التعاون، لتتسع قيم التعاون والتعاضد، وتعم قيم المودة والمحبة، وتتألق قيم الموالاة والمواساة، وتنتشر قيم التسامح والتصالح، لتجتمع في "المجتمع" الكلمة، ويتوحد فيه الصف، وترتفع له الراية، وتعود العزة المفقودة، وترجع الكرامة الضائعة، وينبت من جديد الشموخ الموجوع!!


كيف لا وديننا دين أخلاق، كيف لا وشريعتنا شريعة أخلاق، كيف لا وقرآننا قرآن أخلاق، كيف لا ونبينا نبي أخلاق: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].


لقد سُئلت السيد عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن، يغضب بغضبه ويرضى برضاهرواه أحمد، وفي رواية: "كان قرآنًا يمشي على الأرض".


يقول ابنُ القيمِ رحمه اللهُ موضحا قيمة المواساة في معناها الواسع: مواساة بالخدمةِ، ومواساة بِالنصِيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار، ومواساة بالتوجع لهم، والتألم لهم، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم ويتوجع بوجعهم، وعلى قدر الإيمان تكون المواساة فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة وكلما قوي قويت.



ولقد جاء صلى الله عليه وسلم ليكمل مكارم الأخلاق ويتمِّمها: "بُعثت لأُتَمِّم مكارم الأخلاق"؛ رواه أحمد.


المواساة في القرآن باب مفتوح لكل طارق، ومنهل يفيض لكل ناهل، وزمزم ينضح لكل شارب، وينبوع يتدفق لكل وارد.


عندما كان يصلي في مكة عند الكعبة، أراد أبو جهل أن ينهاه عن الصلاة فوقف له رب السماوات بالمرصاد، حتى لو دعا ناديه وعشيرته وأهله وزمرته، فإن الله سيدعو زبانيته لهؤلاء المرجفين، وكأنها معركة يقف الله مع رسوله يدافع عنه ويصد عنه ويواسيه؛ حتى لا يطع المشركين ولا ينتهي عن صلاته بأي حال من الأحوال": ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 9 - 19].


ولَمَّا فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبطأ عنه جبريل عليه السلام، فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله تعالى: ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 3]، وفي رواية، احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت بعض نساء المشركين: ما أرى صاحبك إلا قد قلاك، فأنزل الله تعالى قوله مواسيًا نبيَّه: ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىما تركك ربك، ما أهملك.


الله تعالى الرحمن الرحيم يواسي نبيه الكريم صاحب الخلق العظيم، بينما كان مطاردًا تاركًا مكة التي هي موضع الميلاد ومنشأ الصبا، ومجمع الذكريات التي فيها رأي الحياة، ودرجت على الأرض قدماه، واستقبل فيها وحي الله، بينما كان يقول: والله إنك خير بلاد الله، وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت ما سكنت غيرك، يواسيه الله قائلًا: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85]؛ أي: بحق القرآن ستعود يا محمد إلى مكة سالِمًا غانِمًا، ميسورًا منصورًا، فرحًا مسرورًا.


وقد تحقق وعد الله، وعاد إلى مكة منتصرًا علة رأس عشرة آلاف موحد بالله متواضعًا فاتحًا: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3].


هنا تجد الله عاصم النبيه من كل أذى يلحق به، ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، فلا أحد ينال منك، ولا أحد يؤذيك، ولا أحد يحزنك؛ لأن الله يحميك من كل شر، ويحفظك من كل سوء، ويعصمك من كل حاقد، وينصرك في كل ميدان.


ولَما عقدوا نية الغدر وبيَّنوا قمة المكر في دار الندوة، كان الله مع رسوله أقوى منهم ومكر منهم، ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[الأنفال: 30].


وكان مكر الله أقوى وأوسع وأبلغ، فنصر رسوله وأظهره على المشركين، وهاجر في سلام واطمئنان وأنشأ في المدينة دولة الإسلام في ثبات وإيمان، ولَما وصلوا للغار وكادوا أن يصلوا إليهم، كانت مواساة عظيمة من الله لرسوله ومن رسول الله لأبي بكر الصديق: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

 
كان الله يرشده دومًا إلى الصبر، مواسيًا له في شدائده أن الله معه وأنه تحت عين الله، ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48]؛ أي اصبرْ لقضاءِ ربِّك فيما حمَّلكَ من رسالتِه، وفيما ابتلاكَ به من قومِك، فإنك بأعينِنَا نراكَ ونحفظُكَ، ونحوطك ونحرسك.

وحين تفطرَ قلبُه صلي الله عليه وسلم حزنًا على إعراضِ قومِه عن الاستجابةِ لنداءِ الحقِّ، واساهُ ربنُّا عز وجل في قرآنه من فوق سبع سموات بقولهِ: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6].

لعلك مهلك نفسك حزنًا بسببِ توليِهم وإعراضِهم عن الحقِّ، فهذه الآياتُ وأمثالُها نزلتْ مواساةً وتطييبًا لخاطرِ نبيِّنَا صلي اللهُ عليه وسلم، كما واساهُ ربُّه سبحانَهُ موجهًا إياهُ ألا يُحَمِّلَ نفسَه فوقَ طاقتِها، ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3].

يؤمنوا أو لا يؤمنوا ما عليك إلا أن تبلغ فحسب، ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [الرعد: 40].

لا تستطيع السيطرة عليهم، فهم من أماكن شتى ومن جذور شتى، ومن نزغات شتى ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 22].

فلا تكلفْ نفسَك تكليفًا شاقًّا مُضْنيًا، فما عليك إلا البلاغُ والبيانُ، أما هدايةُ التوفيقِ فمن اللهِ وحدَهُ، حيثُ يقولُ سبحانه: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56].

ولَما لاك المشركون في عَرضه وبيته وزوجه في حادثة الإفك، نزل القرآن يواسي السيد عائشة أم المؤمنين ويبرئها مما قالوا، ويبيِّن لهم أنه خير وليس شرًّا، ويتوعده الذين لاكوه ونشروه بالعذاب العظيم في الآخرة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11].

ولما أصابه - صلى الله عليه وسلم - من المشركين من أذى ومن إعراض عن دعوته، ومن تهم باطلة لرسالته، جاءت الآيات في سورة الأنعام لتسلِّيه وتواسيه صلى الله عليه وسلم، ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 33، 34]؛ أي: هم لا يتهمونك أيها الرسول الكريم، بالكذب في نفس الأمر، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم، كما روى سفيان الثوري عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن على بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال: قال أبو جهل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا محمد، إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].

وفي معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ﴾ [الكهف: 6]، فلعلك أيها الرسول الكريم قاتل نفسك همًّا وغمًّا، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا، ومنها قوله سبحانه: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8]، ومنها قوله ـ عز وجل ـ: ﴿ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [يس: 76]، أنهم لا ينسبونه إلى الكذب، فهم قد لقَّبوه قبل البعثة بالصادق الأمين، ولكنهم يجحدون الآيات الدالة على صدقه، أي إنكارها بألسنتهم مع اعتقادهم صدقها.

 
وهذه أمٍّ لم يذكر في التاريخِ كلِّه أن يقال لام: إذا خفتِ على ابنك ألقِيه في اليمِّ، أي قلب يصمد؟!، واي نفس تثبت؟! أنه الملكُ جلَّ جلالُه مواسيًا لأمِّ موسى عليه السلام: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].

فردَّ اللهُ إليها ولدَها: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13].

بل جاءت المواساةُ في القرآنِ الكريمِ مع مريمَ عليها السلام حينما اشتدَّ عليه الأمرُ خوفًا من قومِها: ﴿ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23]، فيأتِيها الردُّ مواسيًا إياها، ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ [مريم: 24].

وفي الهجرة تجلت المواساة وعظمت في أبهى معناها وأجمل صورها كيف؟!

نعم هذا هو خلقُ الإيثارِ الذي امتدحَ اللهُ به الأنصارَ المواسين لإخوانِهم من المهاجرين، فقال جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].

المواساة صلب الدين، والحقيقة: أن الدين معاملة، والدين بذل، والدين عطاء، والدين سمو وعلو، والدين تعاطف وتحالف، و"لا يزال الله في حاجة العبد ما دام في حاجة أخيه".

طوبى لمن جعل دنياه مزرعة لآخرته، جعل فيها المواساة والتعاون والتعاطف، فالمؤمن في دار عمل والآخرة دار جزاء، العبد في دار تكليف والآخرة دار تشريف، وما يغرسه هنا يحصده هناك، وما يزرعه هنا يجنيه هناك، ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النساء: 77].

"من أقال مسلمًا أقال الله عثرته"؛ يقول إبراهيم بن أدهم: المواساة من أخلاق المؤمنين، قال بعض الصحابة الكرام: كان سيدنا جعفر أبا المساكين، كان يذهب إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئًا أخرج لنا عكة أثرها عسل فشقها ونعلقها.

وكان بعض الصحابة إن رأى مسكينًا يقول: اذهب واقترض على اسمي.

يقترض على اسم هذا المحسن.

عن أبي حمزة رحمه الله قال: إن علي بن الحسين كان يحمل الخبز في الليل على ظهره يتبع في المساكين في الظلمة، ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب، ومات علي بن الحسين ووجدوا في ظهره أثرًا مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل.

إن المواساة ما هي إلا سمو نفسِ وعظمةِ قلبِ وسلامةِ صدرِ ورجاحة عقلِ ووعي روح ونبلِ إنسانية وأصالة معدنِ يمتلكها الذي يواسي الخلق، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، أبيضهم واسودهم، حقيرهم ووزيرهم.

أنها تورث محبة الله عز وجل، وتورث محبة الخلق، وتشيع روح الأخوة بين المؤمنين، وتقوِّي العلاقات بين المسلمين، وتساعد على قضاء حاجات المحتاجين، وسد عوز المعوزين، تدخل السرور على المسلم، وترفع من معنوياته، وتشعره بالذين من حوله فيقبل على الحياة مسرورًا؟

من المواساةِ: مساعدةُ المحتاجين والفقراءِ واليتامى والوقوفُ بجانبِهم قال جل شأنُه في حقِّ الأبرارِ الذين يواسون الناسَ بالليلِ والنهارِ ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9].

بل جعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مواساةَ اليتيمِ سببًا لدخولِ جنةَ ربِّ العالمين وجارًا للنبي العدنان في الجنةِ فقال كما في حديثِ سَهْلٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"؛ رواه البخاري.

وورد أن جاءه رجل فقال: إن قلبي قاسٍ ليس له من شفاء؟! قال له صلى الله عليه وسلم: خذ اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلين لك قلبك وتبلغ ما تريد.

والمواساةُ تُشِيعُ روحَ الأخوَّةِ بين المسلمين وتقوِّي العلاقاتِ بين المسلمين وتدعو إلى الألفةِ وتؤكِّدُ معنى الإخاءِ وتنشرُ المحبَّةَ، وهذا ما دعا إليه الإسلامُ ونبيُّ الإسلامِ صلى الله عليه وسلم؛ كما في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".

والمواساةُ تجعلُ صاحبَها من المسرورين يومَ القيامةِ وكيف لا؟ والمواساةُ من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وكيف لا؟ "وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ"؛ رواه مسلم.

وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار - عندما وجدوا في أنفسهم شيئًا مما أعطاه لقريش يتألف قلوبهم، فجمعهم وحدهم، ولم يدع معهم أحدًا غيرهم، وقال: "ما كان حديث بلغني عنكم؟".

قال له فقهاؤهم: "أما ذوو آرائنا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئًا - أي الكبراء - وأما أناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشًا ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم"؛ متفق عليه.

فقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟"، ثم قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله"، قال صلى الله عليه وسلم مواساةً لهم: "لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها"؛ متفق عليه.

وتتجلى المواساة في أبهي صورها عندما قال لهم: "إني أعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله..".

قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًّا.

ومن المواساةِ أيضًا: جبرُ خاطرِ المسلمِ وإدخالُ السّرورِ على قلبهِ، وكلما كانتْ المواساةُ في أمرٍ ضروري كان وقعُها على النفسِ أشد، ففي حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَال: "أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ سُرُورًا، أَوْ تَقْضِيَ لَهُ دَيْنًا، أَوْ تُطْعِمَهُ خُبْزًا"؛ رواه ابنُ أبي الدنيا.

ومن المواساةِ أيضًا: عيادةُ المريضِ واتباعُ الجنائزِ قال النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - يومًا لأصحابهِ؛ كما في الحديثِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ رواه مسلم.

وأولى الناسِ بالمواساةِ هم الجيران، كاد النبي صلي الله عليه وسلم أن يورثه، لما للجارِ من مكانةٍ عظيمةٍ عند اللهِ عز وجل، لكن - للأسف الشديد - في كثير من الأحيان تجد أحدُنَا إذا رأي لجارِه خيرًا كتمه، وإذا رأى لجارِه شرًّا أذاعه، إنَّ جاري وجارك قد يموتُ ولا نعلمُ بمرضه ولا موته، إن أحدنَا لا ينامُ الليلَ من شدةِ الحزنِ، إذا رأي جارَه في خيرٍ ولا يغمض له جفنٌ، إذا رأي جارَه في مصيبةٍ نامَ قريرَ العينِ هنيئًا، إلا ما رحم ربي!!

ومن المواساةِ أيضًا: مواساةُ الزوجةِ لزوجِها والزوجِ لزوجتِه فهذه خديجةُ رضى اللهُ عنها وأرضاها كانت نعمَ الزوجةُ المؤنسةُ لزوجِها ساعةَ القلقِ المطمئنةُ لزوجها ساعةَ الوحشةِ، المواسيةُ لزوجِها ساعةَ الحزنِ والألمِ عندما عادَ إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم من غارِ حراءٍ يرجفُ فؤادُه قالت له خَدِيجَةُ " كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"؛ متفق عليه.

المواساةُ تورثُ حبَّ اللهِ عزّ وجلّ وحبَّ الخلقِ ودليلٌ على حبِّ الخيرِ للآخرين. وصدقَ المعصومُ صلى الله عليه وسلم إذ يقولُ كما في البخاري من حديثِ أَنَسٍ رضى اللهُ عنه قال عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".

المواساة تذهب الضغائن والأحقاد للسابقين واللاحقين، كيف؟! ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

لذا أمرنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمواساةِ الناسِ في جميعِ أحوالِهم وشؤونِهم، ففي صحيح مسلمٍ أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ".

مواساةُ المصابين ومواساةُ مَن ابتُلِي بفقدِ عزيزٍ، والتخفيفُ عن المنكوبين والمبتلين دليلٌ على إيمانِ العبدِ، وحسنِ فهمِه لمبادئِ الإسلامِ القويمةِ ومن صنائعِ المعروفِ التي يحبُّها اللهُ تعالى، فالدنيا كما وصفَها اللهُ تعالى دارُ ابتلاءٍ واختبارٍ، قال اللهُ: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، والمبتلى ليس وحدَه المبتلى؛ كما قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].

لذا بيَّنَ اللهُ جزاءَ الصابرين مواسيًا إياهم ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

وحرص النبي صلى اللهُ عليه وسلم على أنْ يمدَّ يدَ الرأفةِ والعطفِ؛ ليمسحَ بها دمعةَ الباكي، ويخففَ بها لوعةَ الشاكي، ولكي يفتحَ بابَ الأملِ لكل مصاب، ويثبِّت يقين كل مرتاب، فعلمنا صلى اللهُ عليه وسلم الصبرَ على الشدائدِ، وحبَّبَ إلينا ثوابَ الصابرين، ومواساةً لهم في مُصابهم، عليهم صلوات ربهم ولهم هداه ورحمته: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156].

وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَا يُصِيبُ الْمسلِمَ مِنْ نَصَب، وَلاَ وَصَب، وَلاَ هَمِّ، وَلاَ حَزن، وَلاَ أَذىً، وَلاَ غَمّ، حَتى الشوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللهِ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)؛ رواه مسلم.

المسلمون الأوائل عاشوا المواساة، لذلك رؤوسهم كانت مرفوعة، وكرامتهم مصونة، راياتهم خفاقة، أما حال المسلمين الآن في تشتُّت وتشرذُم، إلا ما رحم الله، تركوا المواساة والتعاضد والتعاون، فذهبت ريحهم، وضاعت نخوتُهم، وانمحتْ هيبتُهم، وتلاشت عزتهم، وأصبح المسلم بلا ثمن، يُقتل بلا ثمن، أرضه مستباحة، دياره مستباحة، ثروته مستباحة، كرامته مستباحة، لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ومن الإيمان إلا رسمه، ومن القرآن إلا حرفه، همُّهم بطونهم، دينهم دراهمهم، قِبلتهم نساؤهم، لا بالقليل يقنعون، ولا بالكثير يشبعون، إلا من رحم ربي وعصم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
عودة
أعلى