وردت الإشارةُ إلى هذه القصة في سورة البروج؛ حيث ورد: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ [البروج: 4]؛ فمَن هم أصحاب الأخدود؟ ذكر أن أحد ملوك اليمن كان يدعي الألوهية، وكان يخدمه في دعواه ساحر كبير يقوم بخداع الناس ليظهر لهم خوارق للملك، وحدث أن قال الساحر للملك: إني كبرت، فاختر غلامًا ذكيًّا أعلمه السحر؛ ليقوم مقامي في خدمتك، فاختار الملك غلامًا بارع الذكاء، ثم دفعه إلى الساحر، وبدأ تعليمه السحر، وفي أحد الأيام خرج الغلام إلى أطراف البلدة فوجد كهفًا، فدفعه فضوله إلى دخول الكهف، فسمع صوتًا يناجي ويتعبد الله الواحد الأحد بكلمات استرعت انتباهه، فاقترب أكثر، فإذا رجل مهيب جالس يتلو هذه الأدعية، فاقترب منه الغلام وسأله: مَن يناجي؟ فقال العابد: إنه يناجي الله الواحد خالق هذا الكون وخالق الناس، فقال الغلام: والملك! قال العابد: إنه مخلوق مثلي ومثلك، كلنا من خلق الله الواحد القوي الأبدي الحي الدائم، الذي لا يفنى ولا يموت، وما الملك إلا مخلوق يكبر ويهرم ويموت، سُرَّ الغلام لكلام العابد وطلب المزيد؛ فقد أعجبه كلامه ودخل شغاف قلبه، وقال: كيف لي أن أتعلم علمك هذا؟ قال: تأتي إلي في أي وقت تشاء، ولكن دون أن تخبر أحدًا عني؛ فالملك ظالم يقتل كل من يحمل هذه العقيدة، فوعده الغلام بكتمان الأمر، وانصرف على أن يعود فيما بعد، فكان الغلام يزور العابد قبل ذهابه إلى الملك، وكان إذا تأخر عن الموعد يزجره الساحر، فيتعلل بأن أهله أخروه، وأحيانًا يزور العابد قبل عودته إلى البيت، فإذا سأله أهله عن سبب تأخره تعلل بأن الساحر أخره، واستمر الغلام على هذه الحال فترة، وتعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى، ثم إنه في عبوره الطريق مرة رأى جمهرة من الناس في حالة اضطراب وخوف، فلما سأل عن السبب ذكروا له أن أفعى كبيرة مخيفة قد اعترضت الطريق فمنعت الناس من العبور، فتقدم إليها وقال: الآن أختبر الأفضل لي؛ الساحر أم العابد، فقال: اللهم إن كان العابد على حق فاقتل هذه الأفعى، ثم رماها بحجر فقتلها وسر الناس، وقالوا: هذا الغلام أنقذنا من الأفعى، وعاد الغلام إلى العابد وقص عليه خبر الأفعى، فقال له: بني، أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى فاصبِرْ ولا تدُلَّ عليَّ، ثم إنه أصبح يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ودخل ديوان الملك فالتقاه جليس الملك - وكان أعمى - وقال له: لقد بلغ من علمك أنك قتلتَ الأفعى، فهل لعينيَّ من شفاء عندك؟ قال: نعم إذا آمنت بالله الواحد دعوته ورجوته شفاءك، فقال: أفعل، فدعا الله باسمه الأعظم، فشفي الأعمى وأبصر، ودخل الأعمى إلى الملك مبصرًا، فقال له: ها قد عدت مبصرًا! فكيف عاد بصرك؟ قال: ربي رد عليَّ بصري، قال: أنا، قال: لا، ربي وربك الله، قال: ألك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فأمر بتعذيبه، ولم يزل يعذبه ليعرف من أين له هذه الأفكار الدخيلة على بلده؟ فاعترف تحت التعذيب بما عليه الغلام، وأحضر الغلام، وامتدحه الملك أولًا، وقال له: لقد بلغ من علمك ما بلغ حتى شفيت الأعمى والأبرص، قال: لم أفعل ذلك، وإنما الله تعالى هو الشافي، فغضب الملك وأمر بتعذيب الغلام، فاعترف على الراهب، فأتي به وعذب بشتى ألوان العذاب؛ لأن الملك عده رأس الفتنة، فثبت على دينه، فأحضر الملك المنشار فأمر بشقه نصفين، وعاد إلى الغلام يغريه بتغيير رأيه وأن يعمل لحساب الملك، فامتنع، فأمر الملك بإلقائه من أعلى الجبل ليقتله، فعندما أُخذ إلى الجبل دعا الله أن ينجيه من القوم الظالمين فاهتز الجبل وسقط الجنود وسلِم الفتى، وعاد إلى الملك يطلب منه الإيمان بالله، وترك ما هو فيه من الباطل، لكن الملك أصر على الكفر وأمسك الغلام وطلب إلقاءه في البحر ليموت غرقًا، ونجاه الله من الغرق، فعاد إلى الملك، فقال الغلام: لن تستطيع قتلي إلا إذا عملت بما أقوله لك، فتلهف الملك لقوله وأصغى إليه، فقال: تجمَع أهل البلد كلهم في ساحة عامة وتصلبني، ثم تأخذ سهمًا من كنانتي وتصوبه نحوي وتقول: باسم الله رب الغلام، فتقتلني.
فرح الملك الطاغية لاقتراح الغلام، ثم نفذه أمام حشد من الناس، وأخذ سهمًا من كنانة الغلام، وقال: باسم الله رب الغلام، فجاء السهم في صدغ الغلام، ومات شهيدًا رحمه الله، لكنه ترك خلفه شعبًا مؤمنًا، قال بصوت واحد: آمنا برب هذا الغلام، وعلموا أن الملك الذي استعان برب الغلام لم يكن إلهًا كما يدعي، وهكذا قامت ثورة ضد الطاغية، فما كان من الملك الطاغية إلا أن خفر خندقًا وملأه نارًا، أحرق به المعارضين المؤمنين الكافرين بربوبيته الكاذبة، ومما يروى أيضًا: أن امرأة كانت تحمل ولدها الرضيع ممن آمنت بالله ترددت في قذف نفسها في الخندق، وكادت أن ترتد؛ خشية على رضيعها، فأنطقه الله، وقال لها: أنت على حق يا أماه، فثبتت وألقت نفسها مع رضيعها في الخندق.
لنستعرِضْ بعد هذه المقدمة الشارحة آيات سورة البروج؛ قال الله تعالى بعد القسم الرباني العظيم: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ [البروج: 1 - 4]، فهذا أول ذِكر لهم في القُرْآن الكريم، وقد ذُكروا بعد قسم مغلظ من الله تعالى، أقسم بالسماء ذات البروج: وهي السماء الدنيا التي لها اثنا عشر برجًا بعدد شهور السنة، وهي مجموعات من النجوم، لكل مجموعة شكل مميز يحصى بها الشهور الشمسية، وأسماؤها معروفة - برج الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت - واليوم الموعود: وهو يوم القيامة الذي لا شك في مجيئه، وأقسم بالشاهد والمشهود وهما يومان؛ يوم الجمعة ويوم عرفات، بأن أصحاب الأخدود قد قُتلوا بغير ذنب جنَوْه إلا أن قالوا: ربُّنا الله، وإذا كان المعنيَّ بأصحاب الأخدود هم الملك الطاغية وأعوانه الذي حفروا الأخدود فتكون قُتِل بمعنى: لُعن وطُرد من رحمة الله، ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾ [البروج: 5]، وهنا وصف للنار التي زِيدَ ضرامها من الحطب وأشباهه وألقيت في الأخدود، ثم طرح فيه المؤمنون ليموتوا حرقًا، وهذا منتهى الظلم الذي مارسه هذا الطاغية ليوحي إلى الناس أنه إله يحرق خصومه وغير المؤمنين به في النار، ﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴾ [البروج: 6]؛ أي: هؤلاء الزبانية كانوا يتحلقون حول النار ويُعرَض عليهم المؤمنون، فإذا تمسكوا بدينهم ألقوهم في الأخدود، وإذا ما ضعفوا وارتدوا تركوهم، وهكذا عرض أهل البلد التي جرت فيها هذه الواقعة، وهي نجران، فكان أن أحدث الطاغية فيها مقتلة عظيمة، أوردها القُرْآن الكريم؛ لعظمها وأهميتها، وذكَّر بها أهل مكة ليريهم الله مثلًا للمؤمنين الصابرين، وآخر للطغاة المجرمين الذين سيشقَوْن خالدين في النار، ﴿ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 7]، وأن الملك الطاغية وأعوانه شهود على فعلهم القبيح بالتحريق، ولن يستطيعوا إنكار ما فعلوه يوم الحساب، ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8] لم يرتكبوا إثمًا، ولم يقوموا بعمل إجرامي، إن كل ما فعلوه هو الإيمان بالله العزيز الحميد، هذا هو ذنبهم، وهذه هي جنايتهم، قاتَلَ اللهُ أهلَ الباطل، يغضُّون الطرف عن فاعلي المنكرات والقبائح والمجرمين والسفاحين، ولا يتحملون أن يروا في مجتمعهم أهل الخير والبر والرحمة والطهر والعفاف، فيعملون على تعذيبهم وقتلهم وتصفيتهم جسديًّا بكل وسائل البطش والإرهاب؛ لتسلَمَ لهم الكراسيُّ بالدجل والزور وادعاء الربوبية، إن وجود مثل هذه العقول النيرة لا يناسبهم ويكشف زيفهم ودجَلهم، ويفضح باطلهم، يريدون شعبًا لا يرون إلا ما يُريهم ملوكهم، كما قال فرعون لشعبه: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، وكان سبيل رشاده أن قادهم إلى جهنم: ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 98].
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9] تذكير بقدرة الله تعالى، وأنه خالق كل شيء، مالك السموات والأرض؛ فالكل خاضعٌ لمشيئته وإرادته، فلن يعجزه أحد في الأرض هربًا، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]، وهم الملك الطاغية وأعوانه الذين وقفوا على شفير الخندق وكانوا يعملون على إغواء الناس بردهم عن دينهم ليكونوا على دين الملك الضال، فهؤلاء الفاتنون الفاسدون إن لم يؤمنوا ويتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق؛ جزاء بمثل ما عذبوا به المؤمنين، وشتان بين حريق جهنم وحريقهم في الدنيا، فأقوى نار في الدنيا لا تبلغ إلا جزءًا من سبعين جزءًا من نار جهنم، وهذا الخطاب وإن كان خاصًّا بأصحاب الأخدود فإنه عام يشمل كل طاغية، وكل مَن فتن المؤمنين عن دينهم الحق في كل عصر وزمان.
ذكر أن صاحب الأخدود كان يدَّعي الألوهية، وأن عقيدة الغلام كانت على دين موسى، كما ورد في رواية أخرى: أنه كان صراعًا بين اليهودية والنصرانية، فكان الأخدود لتحريق النصارى، وهذه الحادثة مهدت للغزو الحبشي.